دلف للحي غريبا، ووقف أمام مخبز سليمان مروعي عن سكن يضم غربته. طقطقة صاجات الخبز المقذوفة بعضها فوق بعض، وصياح الخبازين بإبعاد المتجمهرين عن لهب الفرن واختلاطها بضوضاء المتهافتين لالتقاط أقراص خبز ساخنة، وصرخات آخرين بالمحاسب. كل هذا الضجيج وأد صوته، فذرف سؤاله مرارا وبمستويات صوتية مختلفة لعله يتلقى جوابا، وفي كل مرة يلقي سؤاله يأمل التفات شخص ما لإجابته. عيناه المشبعتان بكحلهما جذبت جبرانة، فخطفت خبزها من غير أن تقف للحساب، وأحكمت غطاء وجهها، واتجهت إليه مباشرة، جاذبة إياه لخارج الفرن: - تبدو غريبا عن الحي. - هز رأسه متحاشيا النظر إليها مباشرة. - ما هو اسمك؟ - مبخوت. - من أي البلدان أتيت؟ - من الخوبة... - أي خوبة خيب الله إبليسك. قالت جملتها وهي تتضاحك لاستدراجه في الحديث الذي عزف عن مواصلته، ومد خطواته صوب بقالة رجب ساعد، بحثاً عن إجابة لسؤاله، فلحقت به: - ألا تريد سكنا؟ - بلى. - اتبعني. من ذلك اليوم وجبرانة تبحث فيه عن مفتاح لعنوستها المزمنة. تمر بباب بيته المشرع ذهابا وإيابا، فتراه متخففا من ثيابه فتسرق نظرات تتناسب مع عبورها لفتحة الباب، ويتعلق حلمها بالأماني. هي المرة الأولى التي أطالت فيها تغطية وجهها، فقد ألفت السير سافرة بين منحنيات وبرحات الحي تبادل الرجال التحايا والسؤال عن الحال. تتبسط جبرانة مع الرجال ويتبسطون معها، فهي تبحث فيهم عمن يغض الطرف عن عيبها الخلقي ويعمق النظر إلى شغفها برجل يأوي إليها كطائر ملت أجنحته من الخفقان طوال اليوم، رغبتها الجامحة في إيواء رجل تأججت وتجاوزت مخيلتها إلى التفكير في كيفية تنفيذ تلك الرغبة، وكلما دنت من رجال الحارة عفوا عن اقتراف هذا الإثم حتى ولو في الخيال. - سأقبل بأي رجل يتقدم إلي وإن كان الكناس مبارك معضل... تودع هذه الجملة في مسامع صويحباتها وتوصيهن بأن ما تسر به سرا لا يباح ثم تندم على تأكيد سرية ما تبوح به حين لا يأتي أحد طالبا الاقتران بها. مضى الوقت وانتظارها الطويل حرضها على الإفصاح عن مكنونات صدرها فعرضت قبول أي رجل حتى وإن كان راحلا إلى قبره أو نائما بين ثلاث زوجات، ومع عروضها المبذورة في كل بيت لم تفسق أي بذرة منها فأعادت ترتيب خططها مستهدفة اقتناص الغرباء. كل رجال الحي يشيحون بنظرهم عن وجهها متحاشين رؤية فكها السفلي المعوج والكاشف عن لهاتها المدلاة والمبللة برذاذ فمها المتجمع بين فرجات أسنانها المبعثرة على فكيها وعدم انطباقهما ذلك الانحناء المشين تسبب بانزواء وانكماش عينها اليمنى. تصيبها حالة نشوة لمقدم أي رجل غريب لعله يقع فريسة قدها الممشوق قبل أن يكتشف عيبها، ومع مقدم الغرباء تحرص على تغطية وجهها جيدا، وتنشط في إظهار فتنة جسدها بلف عباءتها ومع مجيء كل قادم تخضر أمانيها لأيام قلائل... - هناك من يكشف عيبي قبل أن أكمل صيدي. تفصح بهذه الجملة في تجمعات صديقاتها فيتضاحكن ويربتن عليها مستحسنات ظرفها، واستدراجها لتقص حكايتها مع القادمين، فتفرط ساردة كل وقائعها وأنواع الفخاخ التي تستخدمها لاقتناص القادم، وهن يتضاحكن ويطالبنها بالمزيد من حكاياتها، وغدون يعرفن مقدم الغرباء من تغطية جبرانة لوجهها. لم تمسك جبرانة بوصية أمها: - إذا كرهت فحافظي على كتمان سر كرهك. كان مبخوت آخر قطار يمكنها أن تركب مقصورته، ومع عزوفه الصارم عن مقابلتها أو الحديث معها، فجرت كرهها بقصقصة سيرته إلى نتف من الحكايات السوداء.