عبدالله الساعد يستقل سيارته الأجرة الكورية الصنع ذات الطراز القديم ينطلق بها كل صباح يجوس بها في أطراف وأعماق مدينة جدة . يغادر مسكنه الذي يأوي زوجته وأطفاله الثمانية مع مطلع كل فجر يبتعد عن الحي الشعبي الذي تلفه الفاقة يبحث بكد عن لقمة عيش لتلك الأفواه . ذات يوم التقاها صدفة كما يلتقي بعشرات الآخرين وأقلها إلى مقر عملها.تبع ذلك صدف عديدة جعلته يتخذ من مكان عملها قِبلة ينطلق إليها صباحا وأحيانا عشية. يترصد خروجها ودخولها يتفنن في اختلاق الأعذار وفتل الحجج. يمني النفس بامتلاك شيء من أنوثتها التي عبثت بخيالاته الحالمة وأوقدت شهواته الخاملة في ظل قبول غير معلن من طرفها وترحيب تغلفه بصمت مريب. كانت تتلذذ بانبهاره بجمالها وخنوعه التام عند رؤيتها وترويض رجولته عند إشارة من بنانها وانقطاعه التام لخدمتها كتابع خاص .فشرعت تغذي لهيب خيالاته وتذكي أوارها وتستغله بخبث. فأضحى شارد البال يتأمل بتمعن كل صباح قبل أن يسرح في نظافة هندامه المتقشف. ينظر بحسرة إلى صورة وجهه الذي ودعه منذ زمن. يتساءل عما يمكن أن يعيد إليه شيء من طلاوة الشباب وحلاوة الصبا. احتفى كثيرا بحبة شباب برزت له زاهية متأهبة وقد استقرت في وسط الخد منه تماما نافضة عن نفسها غشاء خليتها التي داهمها الجفاف. شاقة بعزم طريقها نحو السطح المتغضن لوجهه بفعل السنوات المتراكمة في رصيد عمره السائر دون هوادة نحو هجير الشيخوخة .راقب بحرص تدرج تلك الحبة من لون جلده القمحي إلى اللون المائل للأحمر. وعاملها كما يعامل فارسا نيشانه القديم الذي عكف عليه يجلو بريقه كل عشية ويتأمل لمعانه المخبوء في ثناياه جميل الذكريات وأشدها عذوبة . تساءل في ذاته المنتشية وهو يرقبها تمارس غواية الصبا أمامه. عن سر علاقتها بتلك الحبة التي زارته فجأة . تذكر مقولة عبرت مسامعه ذات زمن بأن (حب الشباب المتأخر مبعثه الحب) وجعل يكثر من التعريض لها بوجهه علها ترى ما طرأ عليه من تبدل وفتون. لامست أذنيه عبارات المحيطين به مستنكرة ترقبه في ذهول التبدل العاصف الذي طرأ على طقوس حياته الرتيبة .فلم يأبه لما يقولون ومضى يعب من فيض خيالاته ويرتوي. أجفلها تهافته الشديد في سبيلها ومحاولته احتواءها وإلغاء المسافة بينهما وامتعاضه ممن يرنو إليها حتى بفضول النظر. فشرعت تعيد النظر في تصرفاتها وفي محاسبة عابرة للذات أدركت بعد فوت. بأن حركاتها وسكناتها وعطورها السابحة ولمسات أطراف أناملها العابرة وكلماتها السخية الطافحة بالمديح الزائف لشخصه .وعباراته المعسولة الركيكة التي كانت تتلقاها بفرح الغواني وبهجتها المصطنعة عند رؤيته. وسنوات عمرها الفتية الراكضة أمام جحافل خيوله المتراجعة .كلها عوامل عبثت مصادفة ببقايا بركان خامد فأرسل زفرة شقت طريقها إلى السطح الذي داهمه اليباس فبثت فيه روح من التفاؤل غير مواتية. أضمرت الهرب من عالمه. استبدلت ثوبها الربيعي برداء شتائي قارس وتقنعت في حضرته بقناع سميك من الوقار والتكلف .عندما لم يفق من أوهامه. قررت أن تستبدله بآخر. عندئذ أدرك تبدلها وسرى إليه برودها فانطوى وغرق في صمت مذل.غاضت تلك الحبة مجددا في طيات خده النحيل واضمحلت مابين أخاديده التي خطها عليه الزمن .مخلفة أثر ندبة موجعة. أشبه بفوهة بركان صغير قد خمد.