حين تفتقد حاستك السادسة، فلا شيء سوف يبهجك هكذا خيل إلي وأنا افتقد شيئاً من توازني من أجل أشياء بسيطة ربما، وربما تافهة أيضاً، حاولت مراراً ان أتذكر البدايات قلت سأرتب ما حولي، سأعيد كتابة ما كنت أكتبه من قبل، وسأقرأ بطريقتي القديمة وحتى الموسيقى وأكواب القهوة الموغلة في المراراة سأعيد ترتيبها بنفسي هذه المرة، ولن أسمح لأحد بأن يصنعها لي، فخير الزاد ما صنعت يداكا. كانت البدايات من هناك لا من هنا ربما علي ان أعبر مسافة عشرين عاماً لأتذكر وربما علي أيضاً ان أعود إلى الوراء ليس زمنياً فقط، ولكن فسيولوجيا أيضاً. هكذا كانت الأمور تدور حين فرغت من عمل روتيني كنت أقوم به قسراً. ولكني على أية حال قررت ان أتصرف كما لم أتصرف من قبل قلت سألغي كل شيء يمثل لي كابوساً من الروتين سأقتل هذا الروتين مهما كلفني الأمر. هناك على الشرفة بعد ان جئت للتو، مكان جميل، لطالما اشتقت إليه، هو غار بعيد أعلى نقطة يمكن ان تطل على الوادي كنت ألتجئ إليه حين تأنف نفسي الحياة وفي الغار الذي لا تتجاوز مساحته أربعة أمتار مربعة ولا يزيد ارتفاعه على المتر والنصف أبدأ فأصلي الطقوسي بغفوة هكذا كنت أنام حتى ولو لم يكن الوقت وقت منامة، ولطالما يملأني المكان بطمأنينة لم أجدها في أي مكان من العالم أحاول هذه المرة ان أنام كما كنت أفعل أيام طفولتي، وشبابي لم تكن غنيماتي قريبة مني هذه المرة ولم يكن الكلب يزعجني حين استغرق في نومتي الطويلة فأمتاح حجراً لألقمه فمه، ولم يكن صوت ذلك الفلاح وقد رفع عقيرته للغناء حاضراً، حين كان يستمطر السماء: "يا لله يا رازق الأطيار في وكرها مستكنة والحيه إلى كما الإعصار لو قلتها أنسي وجنة والساعية جابت الأمصار عن رزقها مستهمة يصيبنا وابل الأمطار وتعيد ذا الأرض جنه" 1الفلاح البسيط، ضاع صوته مع صوت الرعد وهو يرغى ويزبد، قهقهة الرعد هي قهقهة ملك من الملائكة، هكذا تعلمنا وفجأة بلا مقدمات يأتي هزيع المطر، الفلاح من فرط فرحته يغسل جسده بماء المطر البارد ويلهج لسانه بالشكر لرب المطر، والغنيمات تحث الخطى نحو البيت، وأنا من فرحي أفتح فمي لعل القطرات البسيطة تملأه، في عبث طفولي جميل لكني أقنع بالغنيمة وأعود نحو كهفي مستمتعاً برائحة المطر، وبصوت الرعد وبحفيف الأشجار حين تهزها الرياح، وهي تذكرني ببيت عبدالرحمن شكري: يا ريح أي زئير فيك يفزعني كما يروع زئير الفاتك الضاري هكذا كان الغار يعيد إلي توازني حكايات كانت تأتيني في غفوتي تلك، وفي أحايين كثيرة كان الغار يستقبلني بأصوات مبهمة، أزيز رياح، حركات ما، وربما بعض الأشباح التي تتقافز أمام مخيلتي، ولكنني على أية حال لم أخف يوماً من منامتي فيه. كان شعوراً طاغياً يلتبسني حين اقترب وأعرف أنني صرت مألوفاً هنا لدى سكان الغار الذين لا نراهم. ولن أجد فيه ما يعكر صفوي ولم يكن يخيفني الخفاش وهو يرتبك من زيارتي اليتيمة له، ولا حتى ذلك الدنان وهو يبتني بيتاً له في سقف الغار - الكهف. كنت زائراً مألوفاً ببساطة وكنت أنهي طقسي الذي بدأت وأنا ثمل بلحظات تجل، لا يمكن ان أصفها أبداً، ولا حتى ذلك الصفاء الذي يعيد إلي ألقي، حتى لكأني ولدت من جديد. @@@ أجدني أكتب عن تلك التجربة العجيبة التي رافقتني منذ عشرين عاماً أو يزيد، كنت ألتجئ بانتظام للنوم في ذلك الغار، وكان كثيراً ما يرفدني بقصيدة كلما غفوت فيه أو جئته زائراً. سأرتب أفكاراً من جديد فلابد من المنامة في الغار مرة أخرى، ولا بأس أن قطعت مسافة أربعمائة كيل من أجل الظفر بمنامة فوقية في غار المنتهى سأسلم على سكان الغار فهم يشعرون بي وينتظرون عودتي دائماً، وسيفرحون بي حتماً أنا على الأقل لم أتغير، فقط تناقصت سنوات عمري قليلاً، وطغت موجة من الشحوب على محياي وصرت أفكر كثيراً وأصمت أكثر مما أتحدث، وصار لي أيضاً طريقة جديدة في الحكم على الأشخاص، لم أعد في حاجة للسؤال عنهم، فقط أحتاج ان أنظر لعين أحدهم فأخرج ما في داخله، بل سأعرف منطقه ولغته وما يختزل، وصرت آخذ حبات الميتافاج بانتظام الغار لم يعد بقربه فلاح يستمطر المطر، والكلب ذهب بعيداً وربما هو الآن ذرات ومركبات كيميائية في أنسجة أحد الفلبينيين الذين مدوا أسلاك الكهرباء عبر القرية، فلقد تناقص عدد الكلاب حين مروا بقريتنا يوماً، أعني الكلاب الحقيقية لا الكلاب البشرية التي تزيد ولا تنقص بالطبع، والغنم لم أعد اسمع لها ثغاء، فقط الغار بقي كما هو، والمساء نبهني ظلامه وقت الغروب ان لا وقت للبقاء، لملمت أطرافي ومشاعري وتحسست طريقي وأنا أنزل عبر المنحدر، كانت القصيدة تختمر في رأسي ورائحة الغار وبعض الأحلام لم تزل تثقل على رأسي لكن هل سآتي ثانية ويرتبني الغار في طقسه الجميل!! ---------- (هامش) ---------- 1- شعر غنائي بلغة محكية