الأدب ..هو ذلك الرابط المشترك، الذي تتقاسمه كل الشرائح الإنسانية بمختلف توجهاتها، وتنوع جهاتها. وجين من جينات التكوين المعرفي لسلالة آدم على الأرض. فهو مستودع الذاكرة، ومسرح التجربة، وحديقة الأخبار . ويأتي غناء القصائد الشعرية أو إنشادها، كنوع من أنواع الفنون الأدبية الراقية، والمرتبطة ثقافيا وحضاريا بتاريخ الإنسان .. ففي الغناء باعث نفسي خفي، يشكل نوعا من أنواع التطبيب الذاتي، أو ديالكتيكية للتوازن الفطري. وفي استرجاع مضامين الأغنية من الحكمة، أو المأثور، أو المثل الشعبي، أو الغزل.. إعادة لهيكلة المزاج، وفلترة لحالة الفكر، وإيقاظ لروح العاطفة. والأمر ليس برؤية فلسفية مجنحة أتشدق بها .. بل هو واقع علينا أن نوقن به .. مهما اختلت الرؤى، أو تباينت الآراء حول فكرة الغناء أخلاقيا أو اجتماعيا .. لأنه نمط لا شعوري من شأن الفطرة .. وأنظر إلى علاقة الرضيع بهدهدة الأم وبإنشادها. لقد حظي الطرب في تاريخ العرب قبل وبعد بزوغ فجر الإسلام باهتمام الموثقين أمثال أبو الفرج الأصفهاني، وابن عبد ربه الأندلسي. كما اهتم به عدد من كبار مؤرخي حضارتنا ..كالطبري، والمسعودي، والسيوطي، وابن خلدون وغيرهم. وأشار إليه عبد ربه الأندلسي في عقده الفريد إلى أن «أصل الغناء ومعدنه في أمهات القرى من بلاد العرب ظاهراً فاشياً وهي: المدينة، والطائف، وخيبر، ووادي القرى، ودومة الجندل، واليمامة». أي (سعوديا) حسب وصف صديقنا المبدع الأستاذ الفنان محمد عبده. فكل تلك المدن تدخل ضمن نطاقنا التاريخي والجهوي .. لذا فمسألة ارتباط أهل جزيرة العرب بالغناء ليست بحالة دخيلة، بل هي تركيبة ثقافية، متوارثة وأصيلة. في الجاهلية، كان نتاج معظم الشعراء ينشد بأفواه طبقة من النساء اللاتي احترفن الغناء بمصاحبة آلات القرع .. كالطبل، والدف، والصنج، والجلاجل ..وهي الآلات التنغيمية المعروفة آنذاك.. وكان يُثنى على الصوت الحسن، وعلى الغزل الذي لا يخدش حياء. أما في عصر صدر الإسلام فيروى ابن حجر العسقلاني في (فتح الباري): أن رسول الله (صلى الله عليه وسلم) قال لأبي موسى الأشعري وقد أعجبه حسن صوته «لقد أوتيت مزماراً من مزامير آل داود». كما روي عن رسول الله (صلى الله عليه وسلم) قوله لعائشة «أهديتم إلى بعلها؟ قالت: نعم. قال: وبعثتم معها من يغني؟ قالت: لا. قال: أو ما علمتم أن الأنصار يعجبهم الغزل؟ الا بعثتم معها من يقول: أتيناكم نحييكم، ولولا الحبة السمراء لم نحلل بواديكم». وجاء في (فتح الباري) حديث أنس رضي الله عنه : أن النبي صلى الله عليه وسلم كان في سفر، وكان غلام يحدو .. يقال له أنجشة، فقال النبي صلى الله عليه وسلم رويدك يا أنجشه، سوقك بالقوارير. وجاء في صحيح مسلم عن أنس «رويداً يا أنجشة لا تكسر القوارير». وقد برز في فن الغناء المكي في صدر الإسلام سعيد بن مسجح، الذي أخذ فنه عن الفرس والروم . وكذلك ابن سريج (كمعلم بارز في اللون الحجازي). إلى جانب ابن محرر، ومعبد .. و مالك الطائي، الذي كان أول من استخدم آلة العود في مكة .. وابدع في مقامات الصبا. وكانت قصائد شعر الأحوص، وعمر بن أبي ربيعة، وأمرئ القيس، وزهير ..وفطاحل شعراء صدر الإسلام .. هي الأغنيات الأبرز في ذلك الزمن. وعبر تاريخ المنطقة الثقافي لم ينقطع توارث ذلك الفن جيلا عن جيل، حتى انتهى إلى عهد قريب .. مع جيل من المغنين المهرة كمحمد بن شاهين، وحمزة المغربي، وعبد الله مكي والعويضة، والعبد السلام ..إلخ . وصولا إلى طلال مداح، ومحمد عبده، وعبادي الجوهر، وعبدالله رشاد، وعبدالمجيد، والماجد .. وغيرهم .. لتصبح قصائد محمد العبدالله الفيصل، وخالد الفيصل، والبدر، والخفاجي، والقصيبي، وابن جريد، وساهر .. والكثير، هي من أغنيات هذا العصر التي تحدثت عن واقعه، واختزلت في ثناياها حادثاته الفكرية، والعاطفية والاجتماعية ..كما روحت برقتها عن قلوب أناسه بعفة وغذوبة، وكانت بلسما. إذن، فالغناء رسالة ذات عطر، سامية المغزى. وقيمة من القيم الفطرية التي من شأنها إن هُذبت أن تسهم في عملية ارتقاء شامل .. بذوق أمة بأسرها. ما يطربني في هذا الأمر ..هو ذلك الرقي الذي طرأ على فكر القصيدة الغنائية السعودية الحديثة.. فبعد أن كانت النصوص تمثل صورا رتيبة بلا نبض وبلا روح.. أضحت ذات معان حية، إبداعية، مرفرفة، خلاقة ..وذات أثر نفسي طيب. لتسمو قيمة الحب في المجتمع، ولتسقط فكرة الكراهية .. ولتتسيد مفاهيم الوفاء بالعهد، والتواد، والشفافية .. في أفخم مجتمع إسلامي وسطي معاصر.. وهو ما يعكس واقعا حضاريا مميزا لا يغفله إلا جاحد .. كما أنه يشير إلى رقي ملحوظ في فلسفة التفكير الجمعي، وسمو في عاطفته، وتوهج في ذائقته. وما الشاعر إلا مرآة لمجتمعه .. فيا حبذا لفن يصنع الدهشة، ويستنطق المنطق .. ولإبداع لا يُمل .. (ويا صدى من غير صوت .. ما به حياة من غير موت).