بعد عام من انطلاقة ثورة الكرامة؛ ورغم الحديد والنار والدبابات التي رابطت على مداخل مدنها وقراها وفي ساحاتها، لاتزال درعا تحافظ على زخم ثورتها، إذ يكتسب الحراك الثوري فيها عوامل دفع ذاتية؛ أهمها إصرار أهاليها على إزاحة الطاغية وشعورهم بالمسؤولية الملقاة على عاتقهم أمام أبناء الوطن الذين هبوا لنصرتها. يروى أبناء حوران أن نحو 1200 شهيد سقطوا على ثراها. وهم ليسوا مجرد أرقام؛ فلكل واحد منهم قصة أم ثكلت أو زوجة ترملت أو طفل تيتم. كما أن هناك نحو ثلاثة الآف جريح وثمانية آلاف معتقل ينتمون إلى جميع قرى المحافظة؛ ويمثلون وائلها. يؤكد أغلب من التقيناهم من أبناء درعا أن نحو 150 ألف شخص تناوبوا على دخول معتقلات النظام الذي سامهم أقسى أنواع التعذيب خلال عام الثورة المنصرم، ويقول زين عرباوي: آثرنا أن تكون ثورتنا سلمية ولم نحمل السلاح في وجه القاتل إلا أن الأمور لم تعد تحتمل، مضيفا: أظن أن غاندي ( الأب الروحي للثورة السلمية في الهند) لو تعرض لجزء يسير مما تعرضنا له لكفر بالسلمية، لقد انتهكت الأعراض، وسيق الأطفال إلى السجون وأهين الشيوخ وقصفت المنازل والمساجد، وبدا لنا بعد كل هذا أن أتباع النظام ماضون في قتلنا؛ الأمر الذي دفع البعض للبحث عن وسيلة يدفع بها عن أهله القتل والتعذيب والإهانة، وكانت غالبيتهم من الضباط والعسكريين المنشقين من أبناء حوارن ومن المحافظات المجاورة. تختلف ظروف كتائب الجيش الحر في درعا عن ظروف مثيلاتها في إدلب وحمص وحماة بأنها لا تملك معاقل ثابتة تتحرك منها لتنفيذ عملياتها، وهي دائمة التنقل بفعل الطبيعة وعدم وجود مناطق مجاورة تساعد على الفرار خارج الحدود إلا في حالات نادرة. خلال زيارتنا لبعض قرى درعا حاولنا تأمين اتصال مع عناصر الجيش الحر لمعرفة الآلية التي يعمل بها؛ وحجم التسليح ونوع المواجهات التي يخوضها ضد جيش النظام، واستطعنا أن نصل عبر التنسيقيات إلى التواصل مع عناصر في كتيبة الشهيد أحمد الخلف وهي من أوائل كتائب الجيش المنشق التي تم تشكيلها بعد أشهر من اندلاع الثورة. يقول العسكري المنشق أبو المجد إنه انضم إلى الجيش الحر في سبتمبر الماضي؛ حيث بقي لأشهر رهين النظام الذي قام بسجنه مع عدد كبير من أبناء درعا وحمص وإدلب لمدة أربعة أشهر؛ بعد أن شعر مسؤول في الوحدة العسكرية التي ينتمي إليها بأنه مستاء مما يمارسه النظام من قتل واعتقال وتعذيب، ويضيف أبو المجد: قررنا أن ندافع عن أهلنا وعن المتظاهرين السلميين وكان عددنا بالعشرات، إلا أننا نتجاوز اليوم الآلاف في درعا وحدها وبتنا نعمل ضمن كتائب ومجموعات منفصلة نظرا لتسليحنا الخفيف وعدم قدرتنا على خوض معارك مباشرة مع جيش النظام الذي يستخدم الآليات الثقيلة من مدافع ودبابات ومضادات الطيران. وعن المعارك التي يخوضها الجيش الحر يروي أبو المجد حكايات عن عمليات تخفٍّ وكر وفر يقومون بها، إذ يعمد النظام بأجهزة مخابراته إلى تحديد مواقع المنشقين ثم مباغتتهم أو قصف القرى التي يتواجدون فيها بعد تطويقها بالآف الجنود، الأمر الذي يدفع المنشقين إلى تجنب التواجد داخل القرى والبقاء لأيام ضمن المناطق السهلية رغم أنها مكشوفة، ويتابع: أكثر ما نعانيه هو أن درعا تمتد على رقعة سهلية منبسطة يمكن رصدها من مسافات طويلة ما يتطلب منا البحث عن بعض المناطق الصخرية كهضبة اللجاة التي تمتد بين محافظتي درعا والسويداء، إلا أن عملية الإمداد بالغذاء وقلة الذخيرة واستخدام جيش النظام للطائرات يجعلنا أحيانا هدفا سهلا، وقد استشهد خمسة من زملائنا قبل أيام بينما كانوا يحاولون جلب الخبز لعناصر إحدى الكتائب. ورغم الحصار الشديد الذي تعيشه درعا؛ استطعنا أن نرصد عملية متزامنة لعناصر الجيش الحر تمكنوا خلالها من ضرب أكثر من حاجز عسكري وتكبيد جيش النظام قتلى وخسائر في المعدات. وعن إمكانية وقوع ضحايا أجبروا على الخدمة الإلزامية ولم يستطيعوا الإنشقاق عن جيش النظام يقول العسكري المنشق مصطفى من أبناء القنيطرة : لا نستهدف الجنود المرغمين والأبرياء؛ ونحاول تجنبهم أو تخليصهم من هذا العبء إما بضمهم إلى الجيش الحر أو تهريبهم لقراهم ومدنهم، وأغلب عملياتنا تكون مركزة ونتعاون مع شبكة من المدنيين الذين ينقلون لنا تحركات وتنقلات الضباط ومواقع تمركزهم.. هدفنا واضح وهو قتلة النظام من رجال أمن وضباط تلطخت أيديهم بالدماء. ويضيف مصطفى: لو أن المجتمع الدولي ساعدنا بأقل ما يمكن لتمكنا من دحر النظام خلال أيام ولالتحقت بنا قطاعات عسكرية بكامل عناصرها وعتادها، وردا على سؤال عن نوع المساعدات التي يحتاجون إليها قال: نحتاج فقط لحظر جوي فوق مناطق محددة كما نحتاج لبعض الأنواع من الأسلحة المتوسطة كالصواريخ المحمولة على الكتف؛ وهذه كفيلة بتغيير المعادلة، ويستطرد: نحن نقاتل بعقيدة وإيمان وعدونا لا يملك ما يدفعه للصمود، ولطالما فروا من أمامنا مذعورين وهم أكثر عدة وعددا. ويؤكد مصطفى أن كثيرا من الجنود الذين حاولوا الانشقاق قتلوا أمام أعين زملائهم لزرع الرعب في نفس كل من يفكر بالانشقاق، ويقول: أعدم اثنان من زملائي رميا بالرصاص فقط لأنهما رفضا إطلاق النار على المتظاهرين في منطقة دوما بريف دمشق؛ ثم جرى تشييعهما على أنهم قضوا برصاص مسلحين دون وازع أخلاقي وبمنتهى الإجرام؛ لدرجة أنه لم يسمح للأهالي بمعاينة جثمانيهما ليتم دفنهما بتابوتين أغلقا بإحكام حتى لا يفتضح الأمر، وأضاف: «نحن ندافع عن الأرض ونحارب النظام الذي تبنى سياسة الأرض المحروقة عن طريق أسلحة خفيفة». سجن كبير خلال متابعتا لما يجري في محافظة درعا رصدنا الكثير من العائلات ومعظمها من النساء والأطفال منعتهم قوات الأمن من الخروج إلى الأردن تخوفا من تفاقم مشكلة النازحين التي باتت تشكل عنصرا ضاغطا أمام الرأي العام العالمي. كانت «أم منار» تأمل الانتقال إلى الأردن لعلاج طفلها المصاب بالفشل الكلوي فهي قلقة على حياته؛ وحدث أن تم اقتحام المستشفى الذي كانت ترتاده لإجراء عملية غسيل للكلى لطفلها الذي لا يتجاوز عمره 9 أعوام، كاد طفلها يقتل كما تروي قائلة: لا أريده أن يموت أمام عيني وقد حرموني من علاجه في الأردن، سأحاول ثانية وثالثة رغم أنهم يحاولون إقفال كل الأبواب أمامنا، وتتحدث أم منار عن نحو 100 أسرة تم منعها من المغادرة إلى الأردن وبعضها يحمل تأشيرات خروج وعودة من المملكة، وتقول: كانت طوابير السيارات تصطف للدخول ولم يكن يسمح لها.. معظم من فيها انتظر لساعات ثم عاد أدراجه.. كان معظم المسافرين العالقين على الحدود من الأطفال وأمهاتهم. روى لنا أحد المهربين (البحارة) الذين يعرفون بعض الثغرات على الشريط الحدودي أن امرأتين منعتا من السفر للالتحاق بعائلتيهما فحاولتا التسلل عبر الحدود من إحدى المنافذ خلال الأيام الماضية؛ فرصدها قناص وضعته الأجهزة الأمنية ولم يتردد في قتلهما حيث بقيت جثتاهما عالقتين لساعات قبل أن يتم سحبهما وإيداعهما براد الموتى في المستشفى. وخلافا لإغلاق الحدود يكابد سكان محافظة درعا جراء الحواجز الأمنية التي تقطع أوصال المحافظة وتعزلها عن دمشق ولا يدري أي شخص يتراوح عمره مابين 14 و50 عاما على أي حاجز سيعتقل، وما إذا كان سيخرج حيا أم أنه سيموت تحت التعذيب. إضعاف الشعور القومي جمال (50 عاما) أحد المعتقلين السابقين الذين التقيناهم يقول: كنت قادما من لبنان حين بلغني أن شقيقي استشهد برصاص الأمن؛ اعتقلت على أحد الحواجز وتم نقلي إلى أحد معتقلات الأمن في دمشق؛ لم يسألني أحد من أين أو كيف أو لماذا اعتقلت؟. قاموا بصلبي يومين كاملين وفي اليوم الثالث جاء أحد عناصر الأمن وبيده أداة تشبه الكماشة المعقوفة التي يستخدمها الأطباء. وضع الكماشة بشكل مواز لقدمي وأمسك بمقدمتها أحد أظافري واقتلعه بعنف؛ عندها غبت عن الوعي وعندما استيقظت كان قد اقتلع كامل أظافر القدم وتركني أنزف، تعرضت لتعذيب تمنيت دونه الموت وبقيت ثمانين يوما قبل أن يطلق سراحي تحت المحاكمة بتهمة «إضعاف الشعور القومي». تلك حالة ألفها أهل درعا وهم لا يختلفون في ذلك عن بقية أبناء الوطن، فكل واحد فيهم اليوم هو مشروع شهيد، ولكل قصته ومأساته التي تدمي القلب. درعا اليوم سجن كبير في سجن أكبر اسمه سورية. هكذا رصدنا حياة الناس وهكذا أخبرنا كل من التقيناه.