42 عاما أمضاها محافظ المؤسسة العامة لتحلية المياه المالحة فهيد بن فهد الشريف في العمل الحكومي، متنقلا بين قطاعات حكومية عدة وعاملا مع مسؤولين كثر تقلدوا حقائب وزارية حساسة، بينهم الوزير الراحل غازي بن عبدالرحمن القصيبي الذي ربطته به قصة قوية وعلاقة عمل متينة امتدت من وزارة التجارة وانتهت بوزارة الكهرباء. من حي باب الشام في المدينةالمنورة رأت عيناه النور، وفي مدارسها تلقى التعليم قبل أن تحتضنه جامعة الملك سعود في تخصص التجارة ليلتقي هناك بالوزير غازي القصيبي، قبلها تعرف الشريف وعلى مقاعد مدرسة طيبة الثانوية على طلاب أصبحوا في مستقبل الأيام ملء السمع والبصر وشغلوا مواقع قيادية. في هذه الحلقات، يتحدث الشريف عن ذكرياته مع حرب اليمن وحرب 67 وكيف انتظمت الدراسة بعد أن قررت الحكومة المصرية في ذلك الوقت سحب جميع مواطنيها من الأراضي السعودية، يروى لنا إلى جانب حياته الأسرية وشظف العيش الذي عاشه في المدينةالمنورة، رحلته إلى الرياض على ظهر «عنترناش» وإصرار والده على مواصلة الدراسة. فإلى نص الحلقة الأولى من رحلة العمر : • في أحد أحياء المدينة، رأت عيناك النور مولودا.. ماذا تتذكر من هذه المرحلة؟ • في حي باب الشام، ولدت وكنت الأول في أفراد العائلة، ووالدتي تزوجت قبل ذلك وأنجبت بنتا ثم انفصلت عن زوجها، وأبي الأمر نفسه تزوج بواحدة قبل أمي وأنجب منها بنتا قبل أن ينفصل عنها، ثم تزوج أبي بأمي فولدت أنا ثم أخي طلال (يعمل الآن في مؤسسة البريد السعودي)، ثم الدكتور عبدالله الشريف يعمل في الجامعة الإسلامية في المدينةالمنورة. يتضح أن أبي أنجب بنتا من زوجته المطلقة، وأمي أنجبت بنتا من طليقها، ثم أنجبا بإرادة الله ثلاثة أبناء فيظهر أن لديهم رؤية في تنظيم النسل، سكنا في منزل مستأجر تابع لأحد الأوقاف وكان والدي يدفع أجرة السكن رغم ضيق اليد. • صف لنا دخولك المرحلة الابتدائية.. متى وأين كانت؟ • أعرف عمري الحقيقي فأنا من مواليد 1367 ه، والتحقت بمدرسة النجاح النموذجية في المدينةالمنورة عام 1373ه، وكان مديرها الأستاذ المرحوم ماجد عشقي وهو أستاذ مخضرم ومعروف وهو مرب جيد، وأتذكر مدير المدرسة ومدرس الحساب مننكاني وهو معلم سعودي، أتذكر أبو معوض معلم التاريخ وهو خريج جامعة الملك سعود، وكذلك الأستاذ واصل الأحمدي، ومن زملائنا عبدالوهاب خاشقجي وهو شخصية معروفة، كانت المدرسة قريبة من منزلنا وهو مبنى تاريخي أزيل لصالح توسعة الأحياء والحرم النبوي الشريف. • ألم يكن لك هدف آخر تسعى من أجله بعد تخرجك من المرحلة الابتدائية؟ • تخرجت من المرحلة الابتدائية وكان والدي يرحمه الله يشقى من أجل أن يؤمن لنا العيش ونفقة الدراسة التي لا تتجاوز في تلك الفترة قرشين أو ثلاثة نشتري بها فولا ومربى، وكنا نشتري مرسمة وقلما ومسطرة، أما الكتب فكما هو الآن توزع مجانا، وبعد تخرجي من الابتدائية كنت أحس بتعب الوالد وعناه، ولهذا أدركت أهمية أن أعمل معه، عدت للمنزل وعرضت عليه الفكرة حيث إن هناك معهدا للمعلمين بعد الابتدائية لأتخرج مدرسا، كان طموحي أن أعمل معلما بهدف توفير مال يعين أبي، وكانت هناك فرصة الدراسة في معهد صناعي يخرج فنيين. أبلغت أبي بالفرص المتاحة وطلبت معهد المعلمين، كان يقدم لنا 150 ريالا شهريا حتى أتخرج معلما وبالتالي أتولى الإنفاق على البيت، وأبلغته بالفرصة الأخرى التي هي المعهد الصناعي، والفرصة الثالثة هي الدراسة في المتوسطة، سألني بعد الدراسة في المتوسطة ماذا ستعمل قلت له دراسة ثانوية وهذا يتطلب أن تصرف علينا، فقال الوالد «ادرس يا ابني المتوسطة وربنا يعين». • وماذا تتذكر من رحلة الدراسة في المتوسطة؟ • كانت المرحلة المتوسطة قريبة من البيت، قال أبي إنه سيفتتح دكانا صغيرا وطلب مني أن أعمل معه في الفسحة وأبلغ زملائي ليشتروا منه، لكنني اعتذرت منه عن هذا العمل لصعوبة الجمع بين الدراسة والعمل في محل صغير، افتتح الدكان لكنه أغلقه بعد أن خسر فيه، وبعد عام من دراستي في المتوسط تقرر نقل المدرسة، كان معظم المعلمين من الجنسية السودانية والمصرية، بعد عام ونصف انتقلت المدرسة إلى مبنى آخر في حي الزاهدية بالمدينةالمنورة وكانت بعيدة من المنزل، وكان أحد زملائي في الحارة اشترى «بسكليته» وكنت أركب معه فنذهب إلى المدرسة ونعود إلى المنزل حتى تخرجت من الثانوية العامة. • ما الفرق بين المرحلتين الابتدائية والمتوسطة؟ • الابتدائية كان طلابها من أهل الحارة، أما المرحلة المتوسطة فكان هناك طلاب من أبناء الأثرياء والمسؤولين والوجهاء من العائلات الكبيرة من بيوت الخضيري والشاعر والحسيني وعشقي، وكان مستواهم المعيشي مرتفعا، وكان فيه حرج علينا، عملنا على الانصهار معهم وكان جو ألفة، كانت المرحلة صعبة، وكان ذلك في عهد الملك سعود. • هل تتذكر شيئا عن زيارات الملك سعود للمدينة المنورة؟ • بالتأكيد، عندما كان يزور الملك سعود المدينةالمنورة كنا نخرج له ونشاهد موكبه وعدد السيارات القليلة التي كانت تسير معه، وكان ذلك أيام حرب الثورة في اليمن عام 1970م، وتدخل الجيش المصري في الأمر وكان لذلك تأثير على الدراسة، أنهينا المدرسة المتوسطة وكان مستوانا ضعيفا في العلوم. • انتقلت بحسب معلوماتي إلى ثانوية طيبة.. كيف كان ذلك ومن زملاؤك في المرحلة؟ • انتقلت بعدها مباشرة إلى ثانوية طيبة وهي الثانوية الوحيدة في المدينةالمنورة وكان مديرها أحمد بشناق، ووكيلها الحيدري، والمراقب محمود إسكندراني، في تلك الفترة تأزمت العلاقات بين المملكة ومصر، وكان عدد غير قليل من المعلمين من المصريين، حيث قررت مصر سحب عمالتها وكان ذلك عام 1382 ه، وقد اتخذت المملكة قرارا سريعا حيث عمدت إلى استقطاب مهندسيين ومعلمين وأطباء من الأردن وسوريا والعراق والسودان، وكانت طريقة التعليم لنا صدمة وتحولا مهما في حياتنا، أدخل مقرر دراسة الإنجليزية أو الفرنسية فاخترنا دراسة الفرنسية وكان يعلمنا أستاذ لقبه خفاجي، واكتسبنا لغة جيدة. • بما أن الحديث عن ثانوية طيبة التي كانت ولادة للمسؤولين البارزين.. من رافقك في الدراسة؟ • لم أكن بالذكاء الذي أتوسع فيه، وأكملت في مادة الرياضيات بسبب المعلم كان ذلك في الصف الأول ثانوي، حيث حولت في الصف الثاني ثانوي إلى التخصص الأدبي ثم تخصصت في الجغرافيا وكان المعلم هو إبراهيم مظهر خريج جامعة الملك سعود وهو رجل متميز جدا رحمه الله، وكان جادا وحازما وله هيبة ووقار، وكانت أعمار الطلاب كبيرة. وكان من زملائي الدكتور أنور عبدالمجيد جبرتي الذي تخصص في التاريخ، الدكتور هاشم يماني، الدكتور زهير يماني، أبناء الأستاذ أحمد بشناق، أسامة جعفر فقيه، الدكتور جبارة الصريصري، والدكتور محمد جميل ملا، وللعلم فإن ثانوية طيبة ولادة للنخبة فإلى ما سبق تخرج من هذه الثانوية الأستاذ محمد الفايز، الأستاذ ناصر السلوم، الأستاذ إياد مدني، والدكتور نزار مدني، والدكتور أحمد محمد علي وهو الآن رئيس خريجي جامعة طيبة، وهناك اجتماع سنوي لنا في المدينةالمنورة. التخصص الأدبي كان مع الأسف مكانا مفضلا للمشاغبين والفوضويين، فكانت مرحلة فيها تمرد وسلوك غير طيب من بعض الطلاب، وكان بعض الطلاب يتسلل إلى قهوة في العنبرية ويتركون الفصل، وكان وكيل المدرسة الحيدري حازم، وأحضروا بوابا اسمه طريف وكان قويا جدا وذا بنية، كان هناك جهد كبير من وكيل المدرسة والبواب والمراقب اسكندراني وذلك لإعادة هيبة المدرسة. • تخرجت من الثانوية عام 1385 ه، أين اتجهت بعد ذلك وفي يدك شهادة أدبية.. أين اتجهت؟ • أعلنت الحكومة عن إنشاء خمس محطات تلفزيونية، وكان المطلوب شهادة ثانوية عامة، فعرض علي خالي رحمه الله أن أتقدم لها لا سيما أنها تقدم راتبا جيدا، وشجعتني أمي على ذلك، أبلغت أبي بالأمر فرفض، سألني ماذا بعد الثانوية قلت له جامعة الملك سعود في الرياض، وكان الذهاب إلى الرياض يعد سفرا شاقا، والاتصالات معدومة باستثناء البرقيات والبريد، فطلب مني أن أذهب إلى الجامعة في الرياض، وكانت المكافأة التي تقدمها الجامعة 319 ريالا، وبعد قرار أبي زعلت الوالدة وخالي، وقررت الذهاب إلى الرياض. • وانتقلت بعد ذلك إلى الرياض العاصمة حيث جامعة الملك سعود.. كيف كانت الرياض في تلك المرحلة؟ • لم تكن الرياض مدينة مغمورة في تلك الفترة، بل كانت فيها حركة وتجارة ومطاعم، استقللنا سيارة (عنترناش) وتوجهنا إلى الرياض، وكنا نمر بعفيف والمزاحمية، وضرماء، وديراب، وكانت مهمة سفر شاقة، ودخلت الجامعة تخصص تجارة في عليشة وكان هذا التخصص أفضل لي من كلية الآداب، وكانت الدراسة مشوقة وجيدة، مر العام الأول وكان صعبا جدا، وفي العام الثاني من الدارسة بدأت الأمور تتحسن. في عام 1387 ه، حدث حرب 67 والنكبة ولم تؤثر في الدراسة ولله الحمد، وكنا نتابع الأخبار في المحطة المحلية برنامج استديو الرياض، ثم توسعت مداركنا وبدأنا ندرك الأمور، كنت أتواصل مع أسرتي ووالدي بالبريد، كنت لا أزور المدينة إلا في الإجازات. • يقال إن علاقتك بالراحل الوزير غازي القصيبي بدأت من جامعة الملك سعود.. ما حقيقة ذلك؟ • في السنة الأولى من الجامعة لم يكن هناك تغير، في السنة الثانية كان يدرسنا الأستاذ غازي القصيبي مادة قانون دولي، كان يحمل درجة الماجستير في القانون من كاليفورنيا، وكان عميد الكلية حسين السيد. دخول الدكتور غازي القصيبي وكان عمره 23 عاما كان مؤثرا، وكان محببا إلى الطلبة ومنفتحا عليهم ومتحاورا معهم، وكان يستقبل الطلاب ويستمع إليهم ويأخذ رأيهم، ترك أثرا بالغا على الطلاب، وبعد عام واحد من عمله في الكلية غادر، وتوقفت علاقتي معه عند هذا الحد قبل أن التقيه للمرة الثانية عندما كان وزيرا للصناعة.. (وهو ما سنتحدث عنه في الحلقة الثانية من هذا الحوار). • قبل أن نختم هذه الحلقة، هل كونت علاقة قوية مع غازي القصيبي لا سيما أنك عملت معه في أكثر من موقع؟ • لم أكون علاقة معه، كان يتصرف معنا بطبيعته، وطبعه في علاقته مع الطالب كسر حاجز الرهبة والخوف بين أستاذ الجامعة والطالب، وهذه حقيقة لا تنسى، استهوانا بشعره وأدبه، ثم تركنا وذهب إلى الدراسة العليا في بريطانيا.