سلفنا من الكتاب القدامى كانوا كلما عنت لهم فكرة، لا يحبون أن تنسب إليهم، إما لخشيتهم من عواقبها أو لخجلهم مما فيها، أو لأنها تكشف مكنونات أنفسهم أو لأي سبب آخر، بادروا إلى إيرادها منسوبة إلى أعرابي أو أعرابية. طريقة سهلة ومريحة في التخفف من حمل مسؤولية ما يقال، وعلى المتضرر تعقب الأعرابي أو الأعرابية. كثير من مؤلفاتنا القديمة تفيض بأقوال منسوبة إلى الأعراب على غرار: «قال رجل من العرب: رأيت البارحة الجنة في منامي، فرأيت جميع ما فيها من القصور فقلت: لمن هذه؟ فقيل لي: للعرب! قال له رجل من الموالي (غير العرب): أصعدت الغرف؟ قال: لا، قال: تلك لنا».. و «تكلم ربيعة الرأي فأكثر، وأعجبه إكثاره، فالتفت إلى أعرابي إلى جنبه فقال له: ما تعدون البلاغة عندكم يا أعرابي؟ قال له: حذف الكلام، وإيجاز الصواب، قال: فما تعدون العي؟ قال: ما كنت فيه منذ اليوم!». لم كان أولئك الكتاب القدامى يلجؤون إلى نسبة ما يريدون قوله إلى مجهول (أعرابي أو أعرابية)؟ في ظني أنه سبب لا يبعد عن السبب نفسه الذي يجعل البعض اليوم يفضل الكتابة متخفيا تحت قناع فلا يفصح عن اسمه. من خلال نسبة القول إلى أعرابي أو أعرابية، يحمي الكاتب نفسه من اللوم متى أورد أفكارا وآراء يخشى عواقبها، ليس هذا فحسب بل إن الاختفاء وراء الأعرابي والأعرابية يعطي الفرصة للكاتب أن يطرح أفكارا ورؤى يؤمن بها هو لكنه يلجأ إلى طرحها تحت عباءة الأعراب مجللة بالإعجاب والتفخيم باعتبارها أفكارا تفيض بالحكمة وبعد النظر، فيتوهم القارىء أن قول الأعرابي أو الأعرابية هو معيار الصدق والقول الفصل الذي يستشهد به ويرجع إليه عند البحث عن الحق. مثل استشهاد الأصمعي بجواب الأعرابية التي سئلت عن الحب. فقالت: «جل والله عن أن يرى، ويخفى عن أبصار الورى، فهو في الصدور كامن كمون النار في الحجر، إن قدحته ورى، وإن تركته توارى».. أما إن جمع الأعرابي مع البداوة الجنون، فإن هذا غاية منى الكاتب، فهو من خلال نسبة القول إلى مجنون يمكنه أن يطلق آمنا مطمئنا كل ما يعتلج في صدره من أفكار لا يستطيع إعلانها، فالناس اعتادوا أن يقبلوا من المجنون ما لايقبلونه من العاقل، لذلك نجد النيسابوري يضع كتابا أسماه (عقلاء المجانين) يورد فيه أقوالا خطيرة ينسبها إلى مجانين، من ذلك ما أورده من أخبار الحجاج أنه سأل أعرابيا مجنونا: «ما تقول في عبدالملك بن مروان؟. فقال الأعرابي: ذلك والله أخطأ خطيئة ملأت ما بين السماء والأرض، فقال الحجاج: وكيف ذلك؟ قال الأعرابي: ولاك على أمور المسلمين تحكم في أموالهم ودمائهم بجور وظلم»!!. ومثله ما ذكر على لسان مجنون آخر من أنه دخل على الخليفة العباسي الواثق أيام محنة القول بخلق القرآن (وكان الواثق من الذين يقولون بخلق القرآن). فقال له: أعظم الله أجرك أيها الخليفة، فقال: فيمن؟ قال: في القرآن. فقال: ويحك! والقرآن يموت؟ فقال: أليس كل مخلوق يموت؟»!!. فاكس: 4555382 1 للتواصل أرسل sms إلى 88548 الاتصالات ,636250 موبايلي, 737701 زين تبدأ بالرمز 160 مسافة ثم الرسالة