وضع كثير من المحللين في الغرب مؤخرا الكثير من علامات الاستفهام على نتائج التقارب السعودي الصيني، في إطار الزيارات عالية المستوى المتبادلة بين الدولتين وما نتج عنها. وقد بدأت بزيارتين لخادم الحرمين الشريفين الملك عبدالله، الأولى عام (1998) حين كان وليا للعهد، والأخرى عام (2006)، وزيارات قام بها عدد من المسؤولين الصينيين توجت بزيارة الرئيس الصيني للمملكة مؤخرا. ويتلخص أهم ما نتج عن تلك الزيارات من نتائج في إبرام اتفاقيات عديدة، أهمها مشروعات في مجالي تكرير البترول والبتروكيماويات. ويركز التحليل الغربي على أن هذا النمط الجديد من العلاقات بين الدولتين هو بمثابة تحول سعودي نحو الشرق بعيدا عن الغرب يقلل من المصالح المشتركة بين المملكة والدول الغربية. ولم أجد في هذه التحليلات من ينصف بالقول بأن التنويع في العلاقات الاقتصادية الدولية لا يعني الاهتمام بمجموعة من الدول على حساب الدول الأخرى، بل هو مطلب أساسي طالما يؤدي إلى تعزيز العلاقات المشتركة، وفقا لمصالح مشتركة واضحة للجميع، وينعكس إيجابا على مزيد من حرية التبادل التجاري العالمي، وتعزيز تدفق رؤوس الأموال والاستثمارات بين الدول بحثا عن الميزة التنافسية القائمة بينها. أهمية الصين في الاقتصاد العالمي لعل السؤال البديهي الذي نسأله جميعا: هل توجد دولة من دول العالم لا تسعى لخطب ود الصين هذه الأيام؟ وهي الدولة التي قد قفز اقتصادها ليصبح ثاني أكبر اقتصاد في العالم بعد الولاياتالمتحدة، وهي أيضا مرشحة خلال العشرين عاما القادمة لتتصدر قائمة أكبر اقتصاد عالمي. وليست هنالك دولة تماثلها في تحقيق معدلات نمو اقتصادي منتظم خلال الثلاثين عاما الماضية، بلغ متوسطه 10%. وفي كل مرة يتم الحديث بين المحللين العالميين بأن الفقاعة الاقتصادية الصينية على وشك الانفجار وأنها مسألة وقت، تثبت الصين بما يعد مفاجأة لكل الاقتصاديين عكس ذلك بتحقيقها معدلات نمو اقتصادي مرتفعة، وهي وإن انخفضت قليلا في بعض الأحايين فلا يؤثر انخفاضها ذاك في المتوسط العام الذي حافظ على مستوى ال(10%.) وتنحو التوقعات الحالية نحو انخفاض هذه المعدلات إلى أقل من (6%) بحلول عام (2016) اعتمادا على الانخفاض الذي طرأ على معدل نمو الربع الرابع من العام الماضي (2011) والذي وصل إلى (8.9%). وفي رأيي ستظل الصين قادرة على الاستمرار في تحقيق المعدلات الحالية المرتفعة؛ فالتنين الصيني العملاق قد استيقظ، وقد وصف نابليون حال العالم عند ذلك بقوله «عندما تستيقظ الصين فإن العالم سيرتعد»، والعاقل يقول «..فإن العالم سيرفع لها عقاله (قبعته)». فالارتعاد مصطلح نابليوني استعماري قديم لا ينطبق على طبيعة التحولات التي لحقت بالاقتصاد العالمي من خلال مبدأ الاعتماد المتبادل بين الدول في ظل العولمة الاقتصادية والتنافسية المعتمدة على المعرفة والابتكار. المملكة وخارطة العالم الاقتصادية وفي ظل بزوغ نجم الصين الاقتصادي، وظهور دول نامية صاعدة تنافس الصين في تحقيق معدلات نمو اقتصادي مرتفعة، ومنها الهند والبرازيل وجنوب أفريقيا وتركيا واندونيسيا وغيرها، فإن خارطة العالم الاقتصادية قد بدأت تشهد تغيرا هيكليا لا يمكن لأية دولة إلا أن تأخذه في حساباتها حينما تراجع علاقاتها الاقتصادية الدولية وتقيم مسيرتها تبعا لذلك، وتعطي وزنا أكبر في علاقاتها الاقتصادية بهذه الدول وبالصين على وجه الخصوص. والمملكة مثل العديد من الدول قد أدركت هذه الحقيقة، وعرفت المسارات التي يمكن أن تكون نواة للتعاون الاقتصادي بين البلدين، فاتسع مجال تعاونها الاقتصادي مع الصين ليشمل مختلف القطاعات الاقتصادية، على أن يكون محوره قطاعي البترول والبتروكيماويات، للأسباب التالية: أولا: تعد الصين ثاني أكبر مستهلك للبترول في العالم بعد الولاياتالمتحدةالأمريكية، حيث استهلكت العام الماضي (2011) في حدود (9.5 مليون برميل يوميا)، بينما تستورد حوالي نصف هذه الكمية وتنتج الباقي محليا، في حين تستهلك الولاياتالمتحدة أقل من ضعف هذه الكمية بقليل (18.5 مليون برميل يوميا) في الفترة نفسها. والحقيقة الملفتة للانتباه هي أن معدل نمو الطلب على البترول في الولاياتالمتحدة قد وصل الذروة، وهو آخذ في التراجع منذ عام (2008)، بينما هو في تزايد في الدول النامية الصاعدة وفي الصين على الأخص؛ إذ يؤدي النمو المتسارع للطبقة المتوسطة فيها إلى زيادة الطلب على السيارات، بحيث لم يعد مع تحسن مستوى معيشة الفرد الصيني اقتناء السيارة أمرا كماليا بل ضروري. ويصاحب هذه المعدلات المتسارعة في نمو الطلب الصيني على البترول معدلات متناقصة من إنتاجها المحلي منه، مما يؤدي إلى تنامي الواردات البترولية الصينية خلال الأعوام القادمة وبشكل كبير، وهو الأمر الذي يعطي أهمية خصوصية لعلاقات الصين مع الدول المصدرة للبترول وعلى رأسها المملكة. وبشكل عام، فإن الطلب الآسيوي على البترول يمثل (70%) من مجمل الزيادة في الطلب العالمي على البترول، وهي نسبة كبيرة بكل المقاييس تبرر منطقيا توجة مصدري البترول التدريجي إلى هذه المنطقة. فقد نما الطلب الآسيوي العام الماضي (2011) إلى حدود (720 ألف برميل يوميا)،في الوقت الذي انخفض مقداره إلى (310 آلاف برميل يوميا) في أمريكا الشمالية، و(260 ألف برميل يوميا) في دول الاتحاد الأوروبي. كل هذا يبين أن مستقبل الطلب العالمي على البترول سيكون في منطقة آسيا. وعليه، فإن إقامة مشروعات مشتركة في العمليات اللاحقة للقطاع البترولي مثل مصافي التكرير سواء في الصين أو في المملكة أمر يعزز المصالح المشتركة بين المملكة والصين ويزيدها عمقا، ويساهم في احتلال المملكة لموقع هام في هذه السوق الضخمة الواعدة، ويضمن تسويقا منتظما لكميات متزايدة من خام البترول السعودي إلى السوق الصينية. ووصول واردات الصين من البترول السعودي إلى حوالي مليون برميل يوميا العام الماضي (2011) ما يمثل خمس مجمل وارداتها، بعد أن كان أقل من هذه الكمية بكثير يوضح مدى تأثير التقارب بين البلدين في زيادة اعتماد كل منهما على الآخر. ثانيا: تحتضن السوق الآسيوية تمثل السوق الصينية الجزء الأكبر منها نحو (40%) من صادرات المملكة من المنتجات البتروكيماوية، وهي نسبة مرتفعة أن تستأثر بها منطقة واحدة تتسيدها الصين، لتعكس النمو المتسارع في الطلب على هذه المنتجات في هذه المنطقة، وتعكس أيضا إدراك المملكة لأهمية هذه السوق واعتبارها أحد محاور التعاون المهمة في العلاقة الاقتصادية بين دول المنطقة والصين على وجه الخصوص. إن اكتساب منتجاتنا البتروكيماوية ميزة تنافسية في الأسواق العالمية، يعزز الثقة لدى هذه الصناعة السعودية للدخول في مزيد من المشروعات المشتركة لإنتاج مزيد من المنتجات المتوسطة والنهائية في هذه المنطقة وبالذات مع الصين. ثالثا: فيما يخص القطاعات الاقتصادية الأخرى، فإنه بالإمكان الاستفادة من الرخص النسبي للمنتجات الصينية في تدعيم التبادل التجاري بين الدولتين، الأمر الذي يجسد المصلحة المشتركة ويقلل من إمكانية تحقيق فائض مستمر في الميزان التجاري لصالح دولة دون أخرى، وهو ما يحفظ للعلاقات الاقتصادية بين الدولتين توازنها. كما أن الاستفادة من بعض المزايا التقنية للصين يسهل قيام بعض المشروعات المشتركة في مختلف القطاعات الاقتصادية داخل المملكة، الأمر الذي يولد فرصا وظيفية لشبابنا نحن أحوج ما نكون إليها. وختاما، فإن عمق العلاقة الاقتصادية بين المملكة والصين لا يمكن أن يكون على حساب الدول الأخرى، وتوجيه مزيد من الصادرات السعودية من البترول لمنطقة شرق آسيا لن يقلل من أهمية المملكة لدى الغرب طالما استمر يستورد ولو برميلا واحدا من البترول؛ لكون سوق البترول العالمية سوقا واحدة، وتحول تصدير بعض الكميات من البترول عن منطقة إلى أخرى يؤدي إلى التعويض عنها بما كان يلبي طلب المنطقة الجديدة وهو ما يعرف ب «Market Fungibility». وفي تصوري فإن هذا التنوع في العلاقات الاقتصادية الدولية ضروري جدا للمملكة وغيرها، فهو يحقق من بين ما يحققه ضمان «أمن الطلب على الصادرات» على غرار ما تنادي به الدول الغربية من تحقيق «أمن إمدادات الطاقة». * مستشار اقتصادي وبترولي [email protected]