في كل مرة تفقد شخصا عزيزا يحتل موقعا خاصا فى قلبك وفى حياتك، عن طريق الوفاة، بدءا بالأم والأب والأشقاء ومرورا بالأقرباء والأحباب والأصدقاء، يصيبك إحساس رهيب، كمن يفقد أطرافه وأوصاله قطعة تلو الأخرى فينتابه شعور بفقدان القدرة على الحركة والتوازن، وتتحول حياته لفترة إلى غيمة من الأحزان والذكريات. وكم تتمنى حينذاك أن تعود هذه الذكريات لتعيشها مرة أخرى ولو لبضعة ثوان خاطفة، ولكن هيهات. لو تخيلت نفسك محاطا بطيور وبلابل جميلة، تصدح لك وتغرد، وتضفي على حياتك البهجة والمسرة، ثم تبدأ هذه الطيور والبلابل بعد فترة من الزمن فى المغادرة فجأة واحدا تلو الآخر إلى أماكن بعيدة لا تراها ولا تعلم عنها شيئا، حتى يختفي من أمامك أكثرها وتفتقد تغريدها، لتجد نفسك وحيدا يغمرك الحزن وينتابك الإحساس بالوحدة والضياع. حينئذ قد تشعر بأن عالمك فقد أسباب البهجة والسرور، ولم يعد أي شيء يسوى أي شيء، وتتساءل كيف لا تزال توجد الأشياء من حولك وقد اختفت تلك البلابل والطيور إلى ما دون رجعة. كانت تلك البلابل الحانية المغردة فى حياتك، هي السبب الحقيقي وراء بهجتك وإقبالك على الحياة وتحمل مشاقها وصعابها، والتمتع بمباهجها ونعمها، لا يغني عنها مال ولا جاه ولا نفوذ ولا نجاح. ولولا الإيمان بقضاء الله وقدره، ولولا التسليم بأن هذا حق مكتوب، لفاض القلب بالأحزان والألم، ولفقدنا عقولنا. ولكن رحمة الله واسعة. فهو يرسل عليك حمائم بيضاء، حنونة رؤوف، ترفرف من حولك وتصدح لك بأعذب الألحان وأطيب الكلمات، وتلمس أكتافك بأجنحتها الرقيقة، كأنها تمتص من مشاعرك إلى داخلها جزءا من أحزانك، وتعيد إلى قلبك الكثير من الطمأنينة والإحساس بالسلام والهدوء. هي بالفعل حمائم الرحمة البيضاء تحيط بك فى هدوء، وتحوم حولك، وتأخذ بك إلى بر الأمان، في وقت أنت أشد ما تكون فيه حاجة إلى لمسة حنان ومواساة. وهي تأتيك من كل صوب، لا تنتظر منك جزاء أو شكورا، كثير منها يعرفك وتعرفه، وبعضه لا يعرفك ولم تره من قبل، ولكن الرحمة والمودة هما عاملان مشتركان فى نفوسها. هكذا كنت أشعر وأنا أتقبل مع أشقائي عزاء ومواساة من تحمل مشقة الحضور للعزاء فى وفاة شقيقي الثاني. لم يمر عام ونصف على فقداني لأكبر أشقائي، حتى أراد الله عظمت حكمته أن يختار شقيقي الذي يصغره بثلاثة أعوام إلى جواره، رحمهما الله ورحمنا جميعا. مع مغادرة كل حبيب أو عزيز عن دنياي، قريب أو صديق، وأنا أشعر وكأنني أفقد أجزاء من نفسى. ومع أن هذا حق يسري علينا دون استثناء، آجلا أم عاجلا، إلا أنه حق صعب الأداء، وصعب التقبل، ولكنه حق علينا، شئنا أم أبينا. نغادر جميعا، واحدا تلو الآخر، مثل العصافير والبلابل المغردة، ونختفي في عالم آخر، ملكوت لا أجمل ولا أروع، من صنع يد الله الخالق الأعظم والأبدع، لا يقارن بأي عالم من صنع أيدينا نحن البشر. ويأتي الأحباب والأصدقاء والأعزاء، مثل حمام أبيض يحمل أناشيد المحبة والسلام والوئام، لتعزي وتواسي وتشارك، ولتدعو بالرحمة والغفران لمن غادر واختفى فى ملكوت الله، والصبر والسلوان لمن تخلف من بعده في الأرض. لهذا هي سميت «دنيا»، لمن يحتسب ويعتبر، ويعمل عملا طيبا، ويغرس غرسة صالحة تبقى باسمه، وتدل على حسن عمله وصلاحه بعد مغادرته، يشهده الناس ويدعون له، ويشهده الحق جل جلاله من قبل ومن بعد. ولله ما أعطى، ولله ما أخذ. للتواصل أرسل رسالة نصية sms إلى 88548 الاتصالات أو 636250 موبايلي أو 737701 زين تبدأ بالرمز 129 مسافة ثم الرسالة