نعم.. وفي مقالة عريضة تُنشرهنا! لا بأس أن تقرأ ما بين السطور، فربما كنت معنيًّا بهذا الحديث. فأين أنت إذًا أيُّها الوفاء المتجسّد إنسانًا يدب على الأرض؟ أين أنت أيُّها القلب المتّقد حبًّا، وصفاءً، وصدقًا.. تتغير عليه الأحوال ولا يتغير، حتى لكأنه المقصود بقول المتنبي: وحالاتُ الزمان عليك شتّى وحالك واحد في كل حال! أم تراك أبيت إلاّ أن تصدّق قول الآخر: أيقنت أن المستحيل ثلاثةٌ الغولُ والعنقاءُ والخلُّ الوفيًُّ إن البصر الثاقب ليعرف أولئك الذين يَمْهدون لأنفسهم، ويصطادون الفرص، ويذرفون الدموع، ويجيدون التلون، ويلبسون لكل حالة لبوسها، لكنه لم يعرفك فيهم، ولم يرك من بينهم، ولهذا افتقدك فنادى عليك: وداعٍ دعا إذ نحن بالخيف من منى فهيج أحزانَ الفؤادِ وما يدري دعا باسم ليلى غيرَها فكأنما أطار بليلى طائرًا كان في صدري دعا باسم ليلى أسخن اللهُ عينه وليلى بأرض الشام في بلد قفر عرضتُ على قلبي العزاء فقال لي: من الآن فاجزع لا تملَّ من الصبر إذا بان مَن تهوى وشطَّ به النوى ففرقةُ مَن تهوى أَحَرُّ من الجمر لقد نظمتُ فيك الأشعار بعد ما تربعت على عرش الفؤاد، واستوليتُ على سويدائه، وكنتُ إنسان عينه، وعين إنسانه، وها أنا أُدبّج فيك المقالات التي لا تتجاوز أن تكون غَرفة من بحر خواطري حولك. ربما اضطربت الحروف في عينيك الآن، وتساءلت: أتراه يقصدني؟ وهل أقصد إلاّ أنت؟ بودي أن أعرف! أتغيّر قلبك.. ذلك المشرق بالصدق والإخلاص والنقاء؟ أم غالبته عوارض الحياة، وكدوراتهُا فلوّنته بغير ما اعتاد؟ أتغيّر خلقك الشريفُ الذي هو أنموذج يحتذى، ومثل يُتَّبع، ومحل إعجاب لمَن عرفك، ومَن لم يعرفك أم لا زلت على عهدي، ولم تتغيّر بعدي، ولكن حال بيني وبينك الحال؟ أتراك تجد ما أجد، من وَجْدِ البعد، ومرارة الهجر، حتى إني لآوي إلى مخدعي لهجعة نوم فينتابني خيالُكَ اللطيفُ، فأهش له وأبش، وأبثه شكواي وشجني، وأسائله حتى لأذكر قول القائل: وقفتُ على ربع لمية ناقتي فما زلت أبكي عنده وأخاطبه وأسقيه حتى كاد ممّا أبثه تكلمني أحجاره وملاعبه إن المرء ليعرف في حياته الكثير من الناس ممّن زاملهم، أو جاورهم، أو رافقهم في صِبا، أو شاركهم في مجهود، أو جالسهم يومًا، أو أحبّهم أو أحبّوه، ثم تفرقت بهم السبل، وذهب كل إلى شأنه، ونسي بعضهم بعضًا حتى يلتقوا فيبتسم بعضهم إلى بعض، ويتذاكرون العهد القديم الذي يظل جميلاً؛ لأنه قد مضى وانقضى، ولا سبيل إلى ردّه، لكن مثلك هيهات أن يُنسى حتى ينسى الإنسان قلبه، أو يسلوَ عن نفسه، فلقد كنتَ سرورَ العين، ونشوةَ الضمير، ونعمةَ الحاضر، وتطلعَ المستقبل. ولئن قالت العرب: إن الشيء من مَعْدنه لا يُستغرب، فلعمر الله لقد صدقوا، فالشيء من غير معدنه غريب، وما كنتَ إلاّ الشفافية التامة تجسّدت في لحم ودم، وتمثلت بإذن ربها بشرًا سويًّا. لقد عدتُ إلى نفسي، وحاققتها عمّا جنت وفعلت، وما فرّطت وقصّرت .. وقلتُ لها: يداكِ أوكتا وفوكِ نفخ، وَأَرْدَفْتُ: هذا أثر غفلتِكِ وسوءُ تدبيركِ، وإجحافكِ بحقوق الجليس والأنيس!. فاعتذرت إليّ أن التكلفَ، والاحتياطَ في معاملة الصاحب إنّما ينشأ عن نقص الأخوّة، وأن عَقدَها إذا استحكم وتم ورسخ، لم يؤثرْ فيه جفاء، ولم يكدره بعاد. أفترى عذرها لديكَ مقبول، وكيف لا وأنت من الكرام؟ أم تُراك تقول فيها ما لا تقول فيك. أم أنت تعتب الآن على هذه الكلمات المرقومة على قارعة الطريق يقرؤها الرائح والغادي، فيتساءلون عن معانيها ومراميها، ويديرون رؤوسهم ويقلّبون أيديهم؟ أتراه حديثٌ عام أم خاص؟ أم أفكار أم أشخاص؟. فلا عليك إذًا، فإنك وإن أدركت ما لم يدركوا، ووقعتَ من مدارك القول على ما لم يقعوا، إلاّ أن الناس جبلوا على البحث عن ما وراء الوراء، وأولعوا بالإغراق في التحليل والتعليل، وانعقد في قلوبهم أن استقراء المعنى المباشرِ سطحيةٌ وسذاجة، فهم ولا بد تاركوا العِنان لخيالهم بحثًا عن معنى يتعداك إلى سواك، ويجعل من الإطار المخصوص فكرة ذات شمول وذيول. أيًُّها الوفاء! مَن نفاك فقد احتكر لنفسه الكمال، وأنحى على غيره بالملام، والجنة على المستكبرين حرام. ولذا فليكن من العدل والإنصاف من النفس أن تقول: إن التربة التي غرس فيها لم تكن محلاً صالحًا، فلم يُكتب فيها نماؤه، ومن ثم ذبل عودُهُ، وَجَفَّ ماؤه، وغاض رُواؤه، وهذه سنة الله في العباد، ما اجتمعوا إلاّ ليتفرقوا: لكل امرئ ضيف يسرّ بقربه ومالي سوى الأحزان والهم من ضيفِ له منطق يرمي القلوب بأسهم أشد من الضرب المدارك بالسيف يقول خليلي: كيف صبرك بعدنا فقلت: وهل صبر فيسأل عن كيف؟! وفاءً لحقك أسأل الله أن تكون سعيدًا في حياتك، موفقًا في عملك، صالحًا في دينك، وألاّ تسبب هذه الكلمات جُرحًا لروحك الرقيقة، وطبعك الهادئ، ونفسك الراضية، والسلام عليك ورحمة الله وبركاته.