منذ اليفاعة ومنذ صباه في قرية كفر الباز بالدقهلية في مصر في نهاية الثلاثينات الميلادية والكاتب والفيلسوف المصري أنيس منصور الذي رحل عن دنيانا أخيرا رحمه الله، كان الموسوعي الجميل في دنيا الكلام البنفسجي، إبداعه هذا الذي امتلأت به موسوعات الكلمات المأثورة بشكل عام والخاصة بالمرأة تحديدا وبأفكاره وفلسفته غير المحدودة. في هذه الصفحة من «أعلام» نبحر مع عاشق الأدب وأدب الرحلات والتأمل على وجه التحديد، أنيس منصور وهو يركض في فضاء الكتابة مستعرضا هموم الحياة والسياسة والاقتصاد والفن والفكر والشعر والرواية والقصة. وأنيس منصور كنت قد سعدت به وبالالتقاء بفكره كثيرا على مدى مشواري الصحافي لأشبع نهم إعجابي الكبير بعطاءاته في هذا المضمار «والصحافة» تحديدا إلى جانب الأدب وفكره السياسي العميق.. ومن لقاءاتي به كان ذلك اللقاء المفعم بالفن والألوان أثناء حضوره افتتاح المعرض التشكيلي الخاص بأعمال صاحب السمو الملكي الأمير الشاعر خالد الفيصل التشكيلية بجدة، كما التقيت به في دورات مهرجان الجنادرية الأولى ومن هذه اللقاءات التي خرجت منها بانطباع جميل عن تلك الشخصية كان أثناء إجرائي حوارا معه في جدة التي زارها بمناسبة تكريمه من قبل عبدالمقصود خوجة في اثنينيته الشهيرة ضمن زياراته العديدة لها ووجدت أن رائحة القرية والعفوية لا تزال «طازجة» في كتاباته وأفكاره. واذا تصفحنا «كراسة» مشوار أنيس منصور نجد أنها عامرة بالأحداث من النجاحات في مجال الكتابة الأدبية والصحافية التي ستظل متجددة في دواخل قرائه ومحبيه حتى بعد رحيله، إذ من الصعب أن تنفصم عرى العلاقة بين كاتب هو أنيس منصور وبين قارئه الذي يعي مكانة هذا الكاتب الذي عاش همومه وأفراحه وارتبط به كل صباح من خلال جريدة وفنجان قهوة. ويعد منصور من أكثر الكتاب الذين دعموا المكتبة العربية حيث ألف نحو 250 كتابا بين التأليف والترجمة وأدب الرحلات والدراسات النقدية والفلسفية والمسرحيات وغيرها ومن أشهر كتبه «حول العالم في 200 يوما» الذي أصدره في العام 1960، وهو من الكتب التي ربي عليها أدبيا كثير من أبناء جيلنا، كذلك الحال مع كتابه الممتع «في صالون العقاد كانت لنا أيام» الذي يعد من الكتب التي اعتبرت كنزهة للقراء ومن الكتب التي لا يكتفي أحدهم بقراءته مرة واحدة لما سجل فيه من حياة شخوص ذلك الصالون الأدبي. وفي مشوار منصور العديد من الجوائز والأوسمة التي جاءت كتقدير له شخصيا وللصحافة والأدب بشكل عام. العمل الذي يفتخر به ومن أعماله الصحافية المتميزة كانت تجربته التي تعتبر التجربة الصحافية الأولى حينما قام بتحقيق مصور عن غار حراء بمكة المكرمة لصالح مجلته «آخر ساعة» في السبعينات الميلادية عندما كان يرأس هو تحريرها، ويومها كان قد طلب في جدة من صديقه الشيخ علي شبكشي مدير عام مؤسسة عكاظ للصحافة والنشر عام 1975 أن يرشح له مصورا متميزا فرشح له رئيس قسم التصوير في الجريدة الأستاذ الفنان الفوتوغرافي المعروف حسين قنوع أطال الله عمره الذي اصطحبه في هذه الرحلة.. المغامرة، حيث قضيا نحو ساعتين صعودا إلى الغار في جبل «النور» بمكة المكرمة.. كانت فيها الصورة الصحافية في ريبورتاجه مذهلة وجديدة وأول صور لغار حراء تقريبا.. إذ لا أستطيع الجزم بذلك لدرجة أن أنيس منصور يومها طلب من الشبكشي أن ينقل خدمات قنوع إلى مصر في مجلته فاكتفى شبكشي وقنوع بالابتسام فقط. وكان أنيس يرحمه الله كثير الفخر بهذا الإنجاز الصحافي له كإعلامي في الميدان وليس ككاتب ومنظر وناقد للحياة بكافة أطيافها، ورغم طول المشوار إلا أن أنيس منصور استمر راكضا في فضاء الكتابة باحثا عن الجديد ومستعرضا هموم الإنسان العربي المعاصر بعباراته الرشقية. من هو؟ - انيس محمد منصور من مواليد 18 اغسطس 1924 بقرية كفر الباز السنبلاوين محافظة الدقهلية، وكان والده يعمل مأمورا لعزبة عدلي يكن باشا. ويومها وهو فتى صغير حفظ في كتاب القرية كتاب الله الكريم ليكون القرآن أولى علاقاته مع العلم، وهذه المرحلة التي حكى عنها أنيس في كتابه «عاشوا في حياتي». - حصل على التوجيهية من مدرسة المنصورة الثانوية وعلى ليسانس الآداب من جامعة القاهرة «قسم فلسفة» عام 1947 وكان الأول على أقرانه في جميع مراحل تعليمه. أجاد في مشواره مع الحياة والإعلام سبع لغات حية تحدثا وكتابة. - عمل معيدا للفلسفة بكلية الآداب جامعة عين شمس عام 1950 وتوقف عن التدريس بالجامعة عام 1985 بسبب اتجاهه للعمل المكثف في الصحافة وتفرغه لها. - أما في الميدان الصحافي فقد عمل: - محررا بجريدة الأساس وبجريدة مسائية كان يرأس تحريرها كامل الشناوي رحمه الله، ثم التحق بالأهرام وعمل فيها بين عام 1950-1952م، ثم انتقل إلى «أخبار اليوم» وظل يعمل بها نحو ربع قرن في الفترة بين 1952-1976م. - تولى منصب «رئيس التحرير» لأكثر من مجلة وصحيفة منها: - رئيس تحرير مجلة الجيل إلى العام 1964م ورئيس تحرير مجلة «هي» مع علي أمين ورئيس تحرير مجلة المصور مع علي ومصطفى أمين، ورئيس تحرير مجلة آخر ساعة بين عامي 1970 – 1976م، ثم تولى منصب رئيس مجلس إدارة « المعارف» ورئيس تحرير مجلة أكتوبر من العام 1976-1985م، ثم مستشارا لدار المعارف بعد ذلك التاريخ، كما رأس تحرير مجلة وادي النيل عام 1985م وكذلك جريدة «مايو» لسان الحزب الوطني الديمقراطي في مصر، بين عامي 1989-1991. - وفي مايو 1998م تولى رئاسة تحرير مجلة «القاهرة» الثقافية الشهرية الصادرة عن الهيئة العامة المصرية للكتاب. - وعلاوة على ذلك كان طوال عمره كاتبا شبه متفرغ إذ يكتب عموده اليومي «مواقف» بالأهرام كما يكتب في عدد من الصحف والمجلات العربية الأخرى مثل: الشرق الاوسط، العالم اليوم، مجلة كل الناس، مجلة اليقظة وغيرها. - شارك في العديد من المناسبات الثقافية والفعاليات الفكرية في مصر والعالم العربي مثل مهرجان الجنادرية. - أضاف للمكتبة العربية أكثر نحو 250 كتابا بين التأليف والترجمة وأدب الرحلات والدراسات النقدية والفلسفية والمسرحيات والإسرائيليات وغيرها، ومن أشهر هذه المؤلفات: أعجب الرحلات في التاريخ، الدين والديناميت، الحائظ والدموع، وجع في قلب إسرائيل، عاشوا في حياتي، البقية في حياتي.. وغيرها. عضويات وأوسمة ومن عضوياته الأبرز عضو مجلس الشورى 1980، نادي القصة، نادي القلم الدولي، جمعية الرحلات الأمريكية، جمعية الأدب الحديث بإيطاليا، جمعية نادي الرحلات باليابان. حصل على جائزة الدولة التشجيعية في الأدب عام 1963 عن كتابه «حول العالم في 200 يوم» وعلى وسام العلوم والفنون من الطبقة الأولى عام 1963م، وعلى جائزة الدولة التقديرية في الآداب ووسام الاستحقاق من الدرجة الأولى عام 1981 وعلى جائزة الإبداع الفكري للعالم الثالث عام 1982 على كتابه «في صالون العقاد». معه في جدة وكانت لقاءاتي مع هذا الرجل المتميز والفيلسوف من أبرز نقاط مشواري الصحافي التي أعتز بها، فلطالما أذهلني قارئا وأعجبت بعطاءاته وأنا أدخل بلاط صاحبة الجلالة.. إنه باختصار شخصية عجيبة ذات طابع حيوي وفكري ديناميكي لا يمكننا إلا أن نقف له احتراما رافعين القبعات. وللأستاذ أنيس منصور علاقة وطيدة بكثير من الفعاليات الثقافية السعودية كما أنه أبدى إعجابه الكبير ومرارا بتجربة صاحب السمو الملكي الأمير الشاعر عبدالرحمن بن مساعد بن عبدالعزيز، وكثيرا ما حل ضيفا على صالون سموه في القاهرة. ومن لقاءاتي به التي لا تنسى كان ذلك اللقاء في مكتب الدكتور سليمان فقيه في مستشفاه الشهير في جدة في الثاني من يوليو 2001م حيث التقى بصديقه القديم الجديد الدكتور سليمان فقيه، وهو لم يزل يشعر بالاعتزاز بتسلمه قبل أيام من ذلك اللقاء جائزة مبارك للآداب في يونيو 2001م، أي قبل أيام من لقائي به. وبهذا كان أول من حصل على هذه الجائزة أمام المرشح المنافس الدكتور شوقي ضيف أستاذه ب26 صوتا مقابل ثمانية أصوات بعد أن حجبت الجائزة التي تم اعتمادها عام 2000 وكان حجبها لحصول نفس الطرفين ضيف ومنصور على 17 صوتا لكل منهما. المعروف أن منصور حصل على جائزة الدولة التشجيعية عام 1962م عن كتابه «حول العالم في 200 يوم» كما حصل على جائزة الدولة التقديرية في مصر عام 1980م، وأنيس منصور في لقائي هذا معه كان قد أصدر كتابه رقم 214، وهو رجل له مواقفه الرائعة والإيجابية تجاه المملكة، فها هو يشيد بما وصلت إليه إمكاناتنا السعودية الفكرية والاقتصادية في كافة المستويات الصحية والتربوية والتعليمية، وأكد أن في مجال الأدب كان هناك النبوغ في الشعر، ومثال ذلك شاعرية وإبداع صاحب السمو الملكي الأمير خالد الفيصل وثقافته الجمة ودوره في تأسيس «مؤسسة الفكر العربي» برأسمال ضخم وصل إلى 24 مليون دولار والتي اختيرت بيروت عاصمة لها. كذلك شاعرية وإبداع صاحب السمو الملكي الأمير الشاعر عبدالرحمن بن مساعد الذي يقول إن وموهبته كانت بالنسبة له بحجم المفاجأة في عالم الإبداع العربي. وعن المكان الذي التقيته فيه، أي مستشفى الدكتور سليمان فقيه قال: أنا سعيد جدا بصداقتي مع الدكتور سليمان فقيه الذي يمثل الشخصية السعودية المثابرة والناجحة في مجال عملها، واعتزازي به يأتي من منطلقات عديدة أهمها أنه عندما كنت أتطبب مرة ما.. في باريس ولندن زارني للاطمئنان علي، وها أنا الآن في زيارة للاطمئنان عليه بعد ان تحسنت حالته من حادث مروري تعرض له في مصر خلال زيارة له إليها، وإعجابي به يتزايد كونه استطاع تأسيس هذه الامبراطورية الكبيرة في عالم الطب «مستشفى فقيه» الذي أصبح وجهة كل مريض ينشد الشفاء. صلح مع الجفري في هذه الزيارة تحديدا.. وكانت العلاقة لما تزل ليست كما ينبغى بينه والأديب السعودي عبدالله الجفري إثر خلاف أو هو أحد الخلافات والتصالحات العديدة التي نشبت وقامت بينهما، وطلب مني التدخل شخصيا لتقريب وجهات النظر في نقطة الخلاف بينهما، وحدث أن نجحت في المهمة بعد أول مكالمة مع أستاذنا الراحل عبدالله الجفري. قالوا عنه عن الأديب والمؤرخ الراحل يقول الفنان محمد ثروت: نشأت في بيت أنيس منصور في أول عامين من مشواري وحياتي مع الفن، لقد خدمني كثيرا في إيضاح الرؤية أمامي في شارع الفن، وكان رحمه الله أول من قدمني إلى موسيقار الأجيال أستاذنا محمد عبدالوهاب، الذي خدمني بدوره كثيرا بإدخالي في تاريخه الفني العظيم. وتقول النجمة نيللي: إن الراحل كان من أكبر الإعلاميين الذين دفعوني إلى الأمام في بدايات عملي في الاستعراض والسينما تحديدا، لقد آمن بموهبتي الفنية وقدمني للكثير من المخرجين الذين استطاعوا أن يشعلوا جذوة الفن في دواخلي. وكانت النجمة الراحلة نادية أرسلان قالت: إن أنيس منصور وصالح جودت كانا سندي الأساسيين عندما جئت مصر من بيروت في مطلع السبعينات ملكة جمال وممثلة بعد أن احتضنني الأستاذان دريد لحام ونهاد قلعي وقدماني في عمل مسرحي وأنا في الخامسة عشرة من عمري، وكم كنت أسعد بنجاحاته الكبيرة والمتوالية عند تحولها فنا مثل مسلسلاته «من الذي لا يحب فاطمة، حقنة بنج، اثنين اثنين» وغيرها الكثير. وفاته أما وفاة الفيلسوف والكاتب الكبير أنيس منصور فكانت في صباح الجمعة 21 اكتوبر 2011 في مستشفى قاهري بعد أن تدهورت حالته الصحية نتيجة التهاب رئوي حاد. رحم الله الأستاذ أنيس منصور ابن محافظة الدقهلية التي قدمت لمصر والعالم العربي: هيكل باشا، وأحمد عبده الشرباصي، والشيخ الشعراوي، والشيخ جاد الحق، وأم كلثوم، ومحمود الخطيب وغيرهم، وسوف يبقى مكانه في الكتابة الصحافية العربية شاغراً لوقت نرجو ألا يطول.