إن عصفت الأوضاع الدولية المتقلبة بالعديد من المفاهيم والمصطلحات التي أفرزت مضامين وآليات استراتيجية جديدة، بقي هناك مبدأ ثابت فحواه أن استقرار الدول، في جوهره ومضمونه، ليس وليد القوة العسكرية، مع ضرورة ذلك في عملية الأمن والاستقرار، وإنما هو وليد تدابير سياسية، اجتماعية، اقتصادية، وثقافية، تجعل من كل قوى المجتمع وشرائحه أعضاء فاعلين في كينونته السيادية. حالة التوحيد التي صنعها الملك عبد العزيز يرحمه الله تظل أنموذجا يتفرد باستتباب الأمن في المجتمع السعودي، مدعوما بالقواعد والأنظمة التي وضعها لتسيير الأمور في مملكته، فقرر أن يخرج بدولته من النظام التقليدي، إلى نظام حديث يتسم بالتنظيم الدقيق لشؤون الدولة كافة، بما يكفل ديمومة الاستقرار والازدهار. يصر عميد كلية ستانفورد الأمريكية لإدارة الأعمال روبرت جوس على أن «القيادة الحقيقية ليست مسألة مقام أو نفوذ أو منزلة رفيعة، ولكنها مسألة تحمل مسؤولية». وإن كانت المعطيات متباينة في المشهدين الإقليمي والدولي، فإن هناك من الشواهد مايؤكد الاستقرار في الدول الحديثة اليوم يستعصي تحقيقه بتجاهل حاجات الناس وتطلعاتهم المشروعة. بل ثبت أن القوة العسكرية ليست الوسيلة الأنجع لتحقيق الاستقرار وحفظه، وفق أمثلة بينت أن زهو القوة وخيلاءها وأوهامها، ليس هو الذي ينجز مفهوم الاستقرار. وها نحن اليوم محاطون بنماذج بنى سياسية تتداعى وتهترئ عند أول أزمة جابهتها، وقد أثبتت الأحداث وفوران الثورات العربية على وجه التحديد أن هيبة الدولة لا تصنعها مطرقة الحديد بيد الحاكم وجحافل الأحذية الغليظة، بل العقد (الحصيف) بين الحاكم والمحكوم. ولمنهج خادم الحرمين الشريفين الملك عبدالله بن عبدالعزيز الذي جنب الكيان السعودي مخاطر الفتن ما ظهر منها وما بطن، ناتج طبيعي في تحقيق معادلة التوازن والتكامل بين مشروع السلطة ومشروع المجتمع، والحالة الحقيقية من الوئام والانسجام على صعيد الرؤية والخيارات بين طرفي المعادلة، وذلك ما جعل المملكة قادرة على مواجهة كل التحديات والمخاطر عبر بلورة مشروع وطني متكامل للمواءمة، والانسجام السياسي والاستراتيجي. ويظل مشروع الملك عبدالله مرفودا بشعبيته الواسعة وبقرب الناس من عقله وقلبه وبالتالي أولوياته. على أن نتائج القياس هنا واضحة؛ رضا شعبي ومستوى حياة داخلية يفسح المجال لكل الطاقات والكفاءات للمشاركة في الحياة العامة. فالاستقرار، بروافده، اليوم لا يتأتى بالمزيد من الإجراءات الاحترازية، أو تضخيم لائحة الممنوعات والاستثناءات، وإنما ببناء حياة حقيقية تتنافس فيها الأفكار والتصورات والمشروعات بوسائل سلمية تلتف حولها القيادة والشعب، فلا مكان إذن لربيع «فوضى»، ولا خريف «هرِمنا»، بل يظل الوطن وطن الاستقرار في الفصول الأربعة إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها.