من المسلم به أن العقوبة الأصلية في التشريع الإسلامي هي الجلد، لأن فيه جلب لمصلحة الزجر للمجلود والردع له ولمن يراه ويبلغه خبره من المؤمنين، وفيه درء لمفسدة حبس الحرية وإلحاق الضرر به وبمن يعول، كما أن فيه مفسدة الاختلاط بغيره من المعاقبين، ولم يكن السجن عقوبة أصلية في عهد النبي صلى الله عليه وسلم وصاحبه الصديق رضي الله عنه حيث سنه الفاروق عمر بن الخطاب رضي الله عنه كضرورة وحاجة ومصلحة عامة، ولكن لا ينبغي التوسع فيه كحالنا في هذا العصر، مما اضطر الجهات المختصة عن السجون في العالم إلى البحث عن بدائل السجون، وأما الجلد فهو السنة التشريعية القرآنية والنبوية، ومن يقف أمام الجلد بكونه مخالفا لحقوق الإنسان ويبدله بالسجن فقد خالف الفطرة السوية والسنن الكونية والتشريع السماوي، مما اضطرهم إلى الرجوع عن السجون والبحث عن البدائل، ولن يجدوا أحسن من الجلد كعقوبة مناسبة للبشرية، ولكن من دون توسع ومبالغة كما هو الحال في بعض الأحكام، وكمية الجلد ليست توقيفية إلا في الحدود ك80 لحد المسكر و80 لحد القذف و100 مع تغريب عام لحد الزنا لغير المحصن، والراجح في قضايا غير الحدود من التعازير أنه يجوز الزيادة فيها على قدر الجلد في الحدود ولكن لا يعني هذا المبالغة فيها فلا بد من تناسب فيما بين السجن والجلد، ولا بد من الأخذ في الاعتبار أن الجلد لا ينفذ إلا بواسطة لجنة مختصة وطبيب متخصص، ويكون مفرقا حسب مدة السجن وبين كل دفعة وأخرى مدة كافية، وتدقيق الحكم من قبل محاكم التمييز يضمن التوازن في مقدار الجلد وعدم المبالغة فيه إلا في حالة عدم تمييزه بقناعة المحكوم عليه وعدم اعتراض المدعي العام، ولا بد من الأخذ في الاعتبار أن هناك توجيهات قديمة ومتجددة بمراعاة عدد السجناء وحال السجون والتوصية بزيادة الجلد وتقليل السجن، ولعل الأمر السامي الكريم الصادر في بداية العام الماضي 1430ه بشأن التوجيه بالحكم ببدائل السجون والاسترشاد بوثيقة الرياض للقواعد الموحدة لبدائل السجون الصادرة من مجلس التعاون لدول الخليج العربية يفتح الباب للبدائل والاجتهاد فيها، إلا أن هناك قصورا في تنفيذ هذا الأمر السامي لعدة أسباب، منها عدم إقامة ورش العمل وحلقات النقاش لآليات تنفيذ هذه البدائل واقتراح المناسب منها مع إيجاد الجهات المختصة لتنفيذها، فالانتقال من أحكام معتادة في السجن والجلد إلى بدائل أخرى لغير أصحاب السوابق وهم الغالبية من المتهمين يحتاج لمرحلة انتقالية وخطة محكمة لتفعيلها، والآن مضى على الأمر السامي قرابة السنة ولم نجد التفعيل المناسب له، ويشترك في المسؤولية لهذا القصور مجموعة من الجهات وعلى رأسها المديرية العامة للسجون التي يجب عليها التنسيق مع وزارة العدل لإقامة دورات قصيرة ومكثفة للقضاة لتسهيل تفعيلهم لهذه البدائل، مع ملاحظة وجوب استجابة ومصادقة محاكم التمييز على الأحكام البديلة وعدم الملاحظة عليها فضلا عن نقضها، ولكن لا بد من ملاحظة أن هناك مجموعة من الجرائم محكومة بأنظمة منصوص فيها على نوع وقدر العقوبة من السجن والجلد كقضايا المخدرات مثلا مما يمنع الحكم ببدائل السجون فيها وعليه فيجب إعادة النظر في جميع الأنظمة المختصة بالعقوبات وتعديلها بما يسمح بالحكم ببدائل السجون فيها، ولا ننس أن عدد السجناء قد بلغوا قرابة ال50 ألفا خلال الفترة الماضية وهو فوق القدرة الاستيعابية للسجون التي يفترض منها كونها إصلاحيات وليست إفساديات حيث أن اختلاط السجناء ببعضهم وتوفر المخدرات أحيانا في داخل السجون وغيرها من الملاحظات يعطينا إشارة بأن المفسدة المتحققة من السجن أهم طرحا صحفيا من مفسدة بعض المبالغات أحيانا في قدر الجلد الذي لا يعد ظاهرة عامة تستدعي الاهتمام الكبير بعكس واقع السجون مع التسليم بأهمية طرح هذا الموضوع ولو وجد ما هو أهم منه. د. عيسى الغيث القاضي في المحكة الجزائية في الرياض