في كل مرة أعيد قراءة هذه الرسائل المكثفة بين طيات الريح اتخلص من سلطة السماع الأول.. ثمة متعة في تفكيك النص واكتشاف تقنياته الجميلة.. مثل ظهور الأصوات... المفردة/ المكان... الرمز الماضي/ الرمز الحاضر... الآخر في صناعة الذات... ثمة نشوة تعتمل في رصد القفزات الأسلوبية بين النصوص وتتبع آثارها في النص... في هذه القراءة سأمر بشكل سريع على بعض هذه التقنيات التي ميزت ديوان الشاعر صالح الخنيزي 1 - المعاناة ... صناعة الذات الشاعرة تحفز المعاناة والألم الفكري الشعري في الإصرار على الحياة متوسلة التمسك بالحب بدلالاته المختلفة كوسيلة صمود أو تمرد على محاولة محاصرة الفرح بمكامن الحرية... حتى لو كان ذلك الحب مجهول الهوية والنتيجة، حتى لو كان ذلك الحب مجرد وهم ففي نصه (فتات زهر) يتمسك بتلك الأخرى رغم أنها ليست نشوة زهر ولا أريج زهر بل فتات.. فتات لزهر ممزق.. ممزق وما زالت له القدرة على البقاء رغم ذلك.. هو ذلك الصمود حتى بعد حالة التشظي. نجده يبدأ النص (إليك أزف الرحيل وأطوي شراع سنيني أفتش عن زورق للحياة أفتش عن مرفأ يحتويني وأبعث شمسي ...) 2 - توجيه الفكر/ تحطيمه هذه التقنية تأتي متداخلة مع الأولى عادة أو منفصلة عنها، وهي توجه المتلقي ليتوقع ختاما معينا للبوح مع انسيابية المقطع، ثم تعيد صدمة في الختام بما يعيد توجيه فكره إلى الضفة الأخرى تماما، ففي المقطع السابق مثلا يكمل الشاعر بوحه ب (وأبعث شمسي على ما تراكم من زيف سحبك) وهنا نرى أنه في البدأ أعطى إشارات للمتلقي بأن هذا المنشود هو الحل هو المرفأ هو الغاية... ثم صدمه بتوضيف سرابية هذا الحب إلا أنه مازال حبا رغم ذلك وكأننا نستطيع أن نضيف تعريفا (عرابيا) (ما لا يمكن تسميته حبا لا يعول عليه) وهذا السرابي يسمى حبا وسحبا أو سرابا... تقنية عادة تجعل المتلقي يعيد قراءة النص برؤية مختلفة بعد صدمة. 3 - الأمل حالة ضوء حالة الضوء قد تكون ظاهرة على شكل تجسد المفردات والدلالات، كمصاديق على الأمل يقول مثلا في ذات قصيدته (المضي إلى الظلال) (بين حقول المآذن تهرق نافلة بالسطوع) أو مسكوت عنها رغم فعاليتها في النص يقول في ذات النص (سيمضون يفترشون الزوايا خفافا، يربون دمع القلادة، يقتسمون لحافا من الصبرقبل المغيب) ويكون الأمل مدثرا في لحاف الصبر مع الضوء النهاري قبل المغيب ودلالاته المتعددة 4 - شخوص لم تخنقها الأنا. في كثير من التجارب الشعرية الحديثة نجد بروز الشخوص في النصوص الشعرية، إلا أنها مخنوقة بسلطة الأنا الشعرية وليس لها كيانها الذاتي الخاص؛ ولكن في نصوص الخنيزي للشخوص الخارجة على النص سلطتها الذاتية وفكرها المختلف كحالة مسرحية تضيف للنص، 5 - الشخوص/ الأرض/ التاريخ تظهر في النص رموز وأعلام ولكنها لا تستخدم لمناسبة أسطورتها الواقعية أو المخيالية للنص وحسب، بل لدلالة موقعها الجغرافي والتاريخي والأدبي، وهذه الشخوص الرمزية أو المثل العليا قد تكون حاضرة على شكل مسميات أو اقتباسات لنصوص من نصوصها مثل توظيفه ل (خولة / طرفة / عشتاروت) مثلا أو لنص الشيخ عبد الحميد الخطي الشهير في منطقته ووطنه (ألق المراسي أيها الربان) ... في الختام ثمة متسع لمتعة اكتشاف خفايا النصوص وما تناثر بين طياتها من دهشة تجعلك تعيد قراءة بعض النصوص أكثر من مرة؛ لتعيد إنتاجها مقاسما الشاعر نشوة كتابة النص.