في قريتنا في أقصى الجنوب كان الناس هناك بنصف رداء قبل خمسين عاما.. وقد تطوروا قليلا وأصبح لهم رداءان اثنان ثم تطوروا أكثر فاستبدلوا عصابة الرأس المعدنية بغطاء كامل للرأس ثم امتلأت رؤوسهم قليلا فأصبحوا يفكون الحرف ويقرأون على ألواح الخشب ثم افتتحت المدارس فما لبثوا أن قفزوا إلى الورق يقرأون ويكتبون وهكذا تغيرت الدنيا وعرفوا حبة الدواء بدلا من أوراق السدر. في ذلك الزمن القديم كانت المواليد تأتي معصوبة العينين وكان كبير العائلة يقضي ثلاث ليال على سطوح منزله يردد تراتيل بأن يفتح الله عيني (المولود) يرى الدنيا على حقيقتها فيأخذ منها خيرها ويجنبه الله شرها. وكانت منازل القرية تبنى من حجارة الجبل وروث البقر وكانت السقوف الحجرية ترتفع بطريقة بارعة ومتقنة وترص حجرا إلى جوار حجر بطريقة هندسية وفنية لا تصدق وكانت محاصيل الذرة والدخن تنتشر فوق هذه السطوح في مواسم الحصاد. وفي تلك القرى الجبلية كان الكل يعمل في الزراعة، النساء والرجال وحتى الأطفال، وكان الموسرون في هذه القرى يذهبون إلى حقولهم المعلقة في الجبل على الحمير. وفي ذلك الوقت كان لكل بيت حمار ولكن ليست كل الحمير سواء، فهناك الحمار القوي الصحيح البنية الصاخب النهيق والجيد التغذية، وهناك الحمار الهزيل الذي بالكاد يمشي، وكان مظهر الحمار وصحته دليلا على ثراء صاحبه. ومضى ذلك الزمن واختفت كل الحمير، والبعض يرى أنها لم تختف.. المهم أن الأمور قد تحسنت كثيرا ولكن ما عاد الناس يهتمون بالزراعة برغم وجود المكن وتوافر الأدوات الزراعية بدلا من ثيران الحرث. لقد رحل شباب هذه القرى الغنية بخيرات الأرض إلى الشمال ومعظمهم يعمل في الحكومة والقليل منهم يعمل في التجارة، وعشقوا المدن وتركوا تلك القرى الجميلة القريبة من السماء في أعالي جبال الريث وفيفا وبني مالك، وجفت الحقول وتصحر الوادي واختفت تلك السواعد التي تبذر الأرض وتخرج خيراتها وكنوزها.. حتى صوت الطارق في الأمسيات الممطرة اختفى هو الآخر.. وعندما تجف الأرض يختنق صوت الحادي.. والسؤال: ما الذي تفعله الأرض إذا غاب المغني؟ ليتكم تعودون لتغني الأرض بفعل سواعدكم.