لو سألت 95 في المائة من السعوديين عن نظرتهم إلى السياحة لقالوا لك «فندق 5 نجوم، خصومات على الطائرة، وتخفيضات في الأسواق». هذه الرؤية تأصلت على مدى سنوات طويلة في ظل تغييب شبه متعمد للسياحية الثقافية والتاريخية، بدعوى الخوف من عبادة الآثار. وفي مقابل هذه الرؤية يرى آخرون أن السياحة يجب إن ترتبط بالمتعة الفكرية والذهنية من خلال زيارة الأماكن التاريخية والمتاحف الوطنية والفردية التي تحفظ ذاكرة الوطن والحضارات الإنسانية المختلفة. وفي حين يعتبر البعض أن المهمة التي تضطلع بها الهيئة العامة للسياحة والآثار لإعادة الروح إلى السياحة الثقافية والتاريخية تشبه المهمات الانتحارية للتعقيدات التي يواجهها الملف، وأبرزها القناعات المتجذرة في نفوس البعض منذ سنوات طويلة، يرى آخرون أن النجاح في هذا الجانب يظل مرهونا بتغير الوعي المجتمعي ونظرته إلى الآثار ودورها في معرفة القيم الحضارية والقواسم الإنسانية المشتركة وتضافر جهود القطاعين العام والخاص لتنمية المواقع السياحية وتطويرها ومدها بالخدمات الأساسية، ويأتي في صدارة ذلك شبكة الطرق والطيران، خاصة أن مساحة المملكة تشبه قارة كاملة. حتى سنوات قليلة ماضية، كان الحديث يتردد على استحياء حول ضرورة الاهتمام بالسياحة، ولم تكن الغالبية تهتم بزيارة الآثار التاريخية في ظل مخاوف ترى أن ذلك قد يؤدي إلى الشرك بالله، ولكن مع تولى الهيئة العامة للسياحة مسؤولية هذا القطاع في 1421ه تغيرت النظرة وبدأت الهيئة في إطلاق رؤيتها التي تركز على الاهتمام بالآثار التاريخية وإعادة الروح في شرايينها من جديد. ووفقا للأمير سلطان بن سلمان رئيس الهيئة في تصريحاته الصحفية فإن إدارته لم تواجه أي اعتراضات على خططها بضرورة الاهتمام بالآثار والحفاظ عليها، من أي جهة مثل هيئة الأمر بالمعروف أو أي علماء كانوا شددوا على أهمية إزالة الآثار التاريخية حتى لا تعبد من دون الله من وجهة نظرهم. وفي إطار حرص الدولة على تغيير الصورة النمطية المأخوذة عن المملكة في الخارج، أطلق معرض روائع آثار المملكة في العواصم الأوروبية للتعريف بالآثار التاريخية والبعد الحضاري لبلادنا كدولة شهدت انطلاقة عدد من الحضارات. تغييب متعمد وقال رجل الأعمال عبد الله الغروي، إن الاهتمام بالآثار والمتاحف الوطنية بقي مغيبا لسنوات طويلة في ظل مفهوم قاصر للسياحة الداخلية بأنها لا تعني سوى الحصول على شقة جيدة، وتذكرة طيران بسعر مناسب والنزول إلى السوق من أجل الشراء فقط، مرجعا ذلك إلى ثقافة كانت سائدة لدى الغالبية ترى أن الاهتمام بالآثار التاريخية قد يشغل الفرد عن العبادة. وأشار إلى الجهود التي بذلتها الهيئة العامة للسياحة في السنوات الأخيرة لإعادة الاهتمام بالآثار التاريخية إلى الواجهة بعد سنوات من التغييب القسري، لكنه وصف هذه الجهود بالبطيئة والتي من الصعب أن تثمر سريعا طالما لم تجد التجاوب الكافي من جانب مختلف القطاعات. ووصف التحدي بالكبير لحاجة الكثير من المواقع الأثرية إلى شبكة خدمات وبنية أساسية، مشيرا إلى أهمية أن يضطلع القطاع الخاص بدور الشريك الفاعل في إدارة هذه المناطق من منظور ربحي؛ ولكن تحت إشراف حكومي مباشر. وأضاف أنه يصعب الطلب من هيئة السياحة؛ لأن تعمل كل شيء في ظل وجود عشرات المواقع الأثرية التي يجب إزالة الغبار عنها. ودعا إلى البدء بتطوير المناطق المحيطة بغاري حراء وثور في مكةالمكرمة؛ لارتباطهما بأهم الأحداث في تاريخ الأمة، وهي نزول الوحي على الرسول صلى الله عليه وسلم والهجرة النبوية إلى المدينةالمنورة لتأسيس الدولة الإسلامية، مشيرا إلى الكثير من الحوادث التي تقع أثناء محاولة البعض الصعود إلى الغارين، ولذلك بات الاهتمام بعوامل السلامة والخدمات فيهما من الجوانب الضرورية مع التشديد على أن يقترن ذلك بالمزيد من التوعية لمحاربة السلوكيات المرفوضة. إهمال جدة التاريخية من جهته، قال عضو اللجنة السياحة في غرفة جدة عبد المحسن القحطاني: إن عدم الموافقة على ضم جدة التاريخية إلى قائمة التراث العمراني العالمي في اليونسكو أسوة بمدائن صالح وحي طريف في الدرعية، كان أمرا متوقعا في ظل الإهمال الملحوظ التي تعاني منه هذه الآثار التاريخية، مشيرا إلى تحويل الكثير منها إلى مستودعات لتجار وسط البلد وافتعال الكثير من الحرائق فيها لإفشال مسعى ضمها إلى التراث العالمي. وانتقد إهمال الأمانة وهيئة الآثار في حماية هذه الآثار التاريخية وعدم تحويلها إلى منطقة جذب سياحي، داعيا إلى أهمية أن يرتبط إحياء الآثار التاريخية بالخطط التنموية في الموقع نفسه وما حوله، في ظل رفض الدولة التام لفكرة إلغاء التراث والتاريخ بحجج واهية لاتمت للدين الإسلامي أو الواقع بأية صلة. وأبدى أسفه لأن نتاج النظرة السلبية للآثار على مدى سنوات طويلة أدى إلى عزوف الغالبية عن زيارتها وعدم معرفتهم بقيمتها التاريخية وإزالة وطمس الكثير منها بدون أي مبرر. وقال: إن المملكة تضم آثارا تاريخية عظيمة يجرى تدريسها في مناهج الكثير من الدول العربية والأجنبية ومنها آثار مكةوالمدينةالمنورة ومدائن صالح في العلا والأخدود في نجران، ولهذا نجد إن غالبية زوار هذه المواقع التي ترتبط بأعظم الحضارات الإنسانية هم من الخارج. وأرجع تهافت غالبية المواطنين في المقابل على مهرجانات التسوق وأماكن الترفيه العائلي فقط إلى الثقافة الاستهلاكية التي تسود المجتمع، مؤكدا أن انتعاش واقع السياحة التاريخية والثقافية يرتبط بالدرجة الأولى بحدوث التحول المنشود نحو أهمية الثقافة وأعمال التفكير في الحضارات وتجارب الشعوب. ورأى أن تعزز الهيئة من واقع الإرشاد السياحي باعتباره ركنا مهما في إعلاء قيمة السياحة التاريخية، وأن يتم السماح بدخول المواقع التاريخية مقابل مبالغ رمزية يتم الإنفاق منها على تطوير هذه المواقع. ورأى القحطاني إن النهوض بالسياحة التاريخية بشكل عام يستلزم العمل على أكثر من محور من أبرزها تشجيع وكالات السفر على تنظيم رحلات بأسعار رمزية إلى المواقع الأثرية والمهرجانات ذات الصبغة الثقافية والتراثية مثل الجنادرية، وغيرها وكذلك الاهتمام بالمتاحف الخاصة مثل متحف عبد الرؤوف خليل وإقامة المعارض التي تركز على الحرف والصناعات التقليدية التراثية، كما يمكن أيضا التوسع في مهرجانات التنشيط السياحي وإقامة المعارض لتسويق المنتج السياحي الوطني. وأعرب عن أمله في إن تكون المتاحف الوطنية التي يجرى العمل على إنشاء بعضها وتطوير البعض الآخر على رأس قائمة المواقع المستهدفة، بالزيارة خلال سنوات قليلة قادمة وأن يشعر المواطن بأن هناك جهدا حقيقيا مبذولا لإعادة إحياء السياحة التاريخية من العدم وفق عمل منهجي. وشدد على أهمية تعزيز البنية التحتية باعتبارها عصب التطوير في أي موقع سياحي، وأن البداية ينبغي إن تكون بربط المواقع الأثرية بشبكة طرق وسكك حديد جيدة. استثمار المواقع من جهته، دعا مدير إحدى وكالات السفر والسياحة في جدة عبد الكريم الحسني، إلى أهمية تسريع جهود هيئة السياحة مع الجهات الحكومية الأخرى، بهدف استثمار عشرات المواقع السياحية الكبرى، مشيرا إلى أن دولا عربية وأجنبية عدة حولت السياحة إلى مصدر رئيسي في الدخل لديها. ورأى أهمية البدء من القاعدة بتشجيع الطلاب على زيارة المواقع الأثرية التاريخية شهريا من خلال رحلات منتظمة وتشجيع مختلف المناطق على إقامة متاحف وطنية. وناشد وزارة التربية والتعليم ضرورة الجدية في تنفيذ برنامج التربية السياحية الذي يقضي بالزام المدارس بتنفيذ زيارة أو زيارتين لأحد المعالم السياحية سنويا مع غرس ثقافة العمل السياحي لدى النشء بما يسهم في توطين ثقافة العمل بهذا القطاع المهم. ورأى أن السياحة الثقافية في المملكة لا تقتصر على الآثار فحسب، بل يجب أن تمتد إلى الرحلات الصحراوية خاصة في فصل الشتاء واعتدال المناخ، وتشتهر صحراء المملكة بعدد من الأشكال مثل الفطر والمظلات والفيل والأسد، والتي تشكلت بفعل عوامل التعرية عبر السنين في مناطق عديدة مثل القصيم والأحساء والجوف. خطة كاملة للتطوير اما الخبير السياحي سعد محمد العمري، فلفت إلى أن صناعة السياحة يجب أن تقوم على خطة متكاملة تنهض بالقطاع بأكمله، مشددا على أهمية أن يتضمن ذلك الايواء والأماكن الأثرية والمهرجانات السياحية أيضا، وتعزيز دور القطاع الخاص لتحقيق قيمة إجمالية مضافة للنشاط السياحي. وأشار إلى أن السياحة البحرية ما زالت تعاني من الإهمال نتيجة عدم تطبيق الخطط الموضوعة لتطوير الواجهات البحرية منذ سنوات بعيدة. وانتقد قصر الاستثمارات السياحية طوال السنوات الأخيرة على أسماء محدودة فقط، ما أوجد حالة شبه احتكار لاتخدم القطاع أو تحرر الأسعار بالشكل المطلوب، مستغربا ضعف الجولات الرقابية على مواقع الايواء ومخالفة الكثير منها لشروط السكن المطلوبة وأبرزها متطلبات الأمن والسلامة والأسعار. ودعا أمراء مختلف المناطق إلى أن تكون السياحة في صدارة أولوياتهم، بعدما أثبتت التجربة أنها يمكن أن تكون مجالا واعدا لضخ المزيد من الاستثمارات الناجحة والمولدة لآلاف الوظائف. ودعا إلى ضرورة تشغيل قطاع الايواء على أسس من الاحترافية حتى يمكن تقديم الخدمة وفق معايير الجودة المطلوبة، مشيرا إلى أن غالبية مشغلي هذا القطاع ما زالوا يعتمدون على الأداء الفردي والبحث عن الربح دون اهتمام بتجويد الخدمة.