بدأ حياته السياسية داعية ثورة، وأنهاها مناهضا لثورة، تناقض غريب لم يستطع معمر القذافي نفسه أن يجد له حلا، فأطلق جام غضبه على معارضيه متهما إياهم بأشنع الاتهامات والأوصاف، فيما نسب إليه الثائرون ارتكاب أفظع الوسائل القمعية التي لا تحترم أي شرع أو قانون أو عرف، فتهاوت بسرعة تلك الصورة الزاهية المنقوشة بعناية عبر السنين عن ذلك الحاكم المثقف صاحب الرؤى والأحلام، لتحتل مكانها صورة الوحش الكاسر الذي لا يتورع عن ارتكاب أي موبقة للتمسك بموقعه، وبدا أن الزعيم العربي الذي اشتهر بأنه الأكثر تحدثا في المؤتمرات الداخلية والخارجية، ما زال يحمل في جعبته الكثير من الأسرار التي لم يفصح عنها، عن جوانب شخصيته الخفية، وعن طبيعة تفكيره واتجاهاته، وعن رؤيته لنفسه والآخرين، وعن دوره وأدوار الآخرين، عن طموحاته وعن أفعاله. معمر القذافي هو أقدم حاكم جمهوري حي على وجه الأرض، بما يجعله عميد حكام العالم، وليس الحكام العرب فقط، وصل إلى السلطة بانقلاب كلاسيكي عام 1969 من ضمن تنظيم الضباط الأحرار تأثرا بما كان يجري في مصر الناصرية المجاورة، لكنه حول الانقلاب فيما بعد إلى ثورة على كل ما هو معهود في العلاقات بين الدول، وفي العلاقة بين مكونات الشعب الواحد، مطلقا نظريته الثالثة، الأنسب برأيه من النظريتين الرأسمالية والشيوعية، ومن حالم مهجوس بالوحدة مع أي دولة عربية، إلى طامع ليكون ملك ملوك أفريقيا، ينصب خيمة البادية في أي بلد يزوره، ويستقبل الرؤساء والقادة في خيمته ذاتها، مهتما بالطقوس والرموز وجاعلا من نفسه نجما إعلاميا بخطاباته السياسية وأزيائه الغريبة. العالم من حوله كان إلى أمد قريب يعتبره موضوعا طريفا، فيما يتسابق رؤساء الدول الغربية إلى الاحتفاء به للحصول على عقود واستثمارات مجزية، فيما تزحف إليه زعامات الدول الفقيرة للحصول على العطايا من القائد، إلى أن انتقلت الثورة الشعبية إلى ليبيا بعد تونس ومصر، فرأى الناس فيه وجها آخر ولم تعد المسألة طريفة، بل مأساة يعيشها الليبيون كل يوم، ويتناقلون أخبارها وصورها في كل مكان. إنه ليس رئيسا ولا حاكما ولا ملكا، بل هو زعيم ثوري، يحكم بأشد ما يحكم به أي رئيس في العالم، من يكرهونه لا يستحقون الحياة، ومن يؤيدونه هم الليبيون الحقيقيون، لكن إذا كان معظم الشعب الليبي الآن قد ثار على قائد الثورة المستمرة منذ 42 عاما، فكيف تمكن القذافي من الاستمرار؟ وكيف سكت شعبه طيلة تلك السنوات العجاف، والتي أدخله فيها القذافي في أزمات وحصارات بدل أن تكون ليبيا ذات المساحة الصحراوية الشاسعة بسكانها القلائل واحة نفطية مزدهرة؟ مواصفات ذهنية وما من شك في أن القذافي يتمتع بمواصفات ذهنية معينة، مكنته من السيطرة الكاملة على هذه المساحة المترامية الأطراف، دون أن يتمكن أي معارض من داخل النظام أو خارجه أن يزيحه من موقعه الذي تربع فيه طويلا. أولا، هناك الانقسام التاريخي ما بين مدينتي بنغازي وطرابلس أو بين ولايتي برقة وطرابلس، فبرقة هي معقل الحركة السنوسية ومنها خرج عمر المختار الذي قاتل الاحتلال الإيطالي 20 عاما قبل إلقاء القبض عليه وإعدامه، فيما كانت طرابلس الأكثر تأثرا بالنفوذ الغربي والإيطالي خاصة، وكانت الأقل مقاومة للاحتلال العسكري الإيطالي من نظيرتها في الشرق. ثم إن برقة أعلنت نفسها دولة مستقلة عقب الحرب العالمية الثانية بدعم من بريطانيا، وعندما انضمت إليها طرابلس وفزان قامت دولة اتحادية فدرالية، لا دولة واحدة، إلى أن ظهر النفط في خليج سرت، الذي ولد فيه القذافي عام 1942، فكان هو العنصر الجامع بين الشرق والغرب لتقوم ليبيا الواحدة، ولذلك لم يكن مستغربا أن يختصر القذافي فيما بعد ليبيا الموحدة بشخصه بعد انقسام، وأن لا يرى لليبيا مكانا دون وجوده هو على رأسها، وإذا كان القذافي نقطة التقاء القبائل المتناحرة والجغرافيات المتنافرة، فإنه ومن أجل البقاء أمعن في استغلال تلك الفوارق والحساسيات كي يبقى هو الحل، ويدل على هذا ما أدلى به نجله سيف الإسلام عقب اندلاع ثورة 17 فبراير، عندما حذر الليبيين من انقسام بلادهم وضياع نفطهم ومن سفك دمائهم، أي باختصار إما أن تكون ليبيا قذافية أو لا تكون! من حالم بالثورة والوحدة إلى طامح بالثورة والعظمة قالوا عنه طويلا إنه مجنون، وجاؤوا على ادعائهم بآلاف الشواهد من أفكار ثورية غريبة لم يقل بها أحد، إلى مواقف غريبة لم يهضمها أحد أيضا، إلى شعارات غريبة ظلت في الهواء، لا يأخذ بها أحد بجدية، كدعوته إلى إقامة دولة إسراطين الجامعة بين إسرائيل وما بقي من فلسطينالمحتلة، وقبل ذلك وأثناء الحروب الأهلية اللبنانية حين كان القذافي يدفع بسخاء إلى أطراف في الحركة الوطنية اللبنانية، دعا المسيحيين إلى الدخول في الإسلام، في حل نهائي وحاسم لمشكلة لبنان، وأخيرا وبعد تطبيع العلاقات الليبية الإيطالية وقبول رئيس الوزراء الإيطالي برلسكوني بتقديم الاعتذار عن احتلال إيطاليا لليبيا، طلب القذافي اللقاء بعشرات الفتيات الإيطاليات في إطار محاضرة يدعوهن فيها إلى الإسلام. فهل هو عبقري يزعم الجنون، أم هو مجنون على حدود العبقرية؟ سؤال لم يجد أحد جوابا عنه، فقد أصبح خطابه الهستيري في باب العزيزية بعد اندلاع الثورة الشعبية ووصولها إلى طرابلس نفسها، نموذجا صارخا على ادعاءات الجنون السياسي، إذ وقف ليسأل معارضيه: من أنتم؟ أنتم جرذان. وتوعدهم بأنه سيلاحقهم دارا دارا وزنقة زنقة، (الزنقة هي الطريق الفرعي المسدود)، وأعلن بدء الزحف بالملايين من داخل ليبيا ومن خارجها، لتطهير ليبيا من شعبها! وقرن القول بالفعل عندما استورد المقاتلين، خاصة القناصة المحترفين لتنفيذ وعيده في شعبه، وبلغ السيل الزبى حتى تركه أقرب معاونيه وبعض وزرائه، فيما التزم رفاقه القدامى بالصمت المطبق، ومنهم من فر بجلده، ومنهم دون ذلك لا يستطيع حراكا، ولا كلاما، حتى وزير خارجيته موسى كوسا الذي كان من أخص اتباعه، واتهمته المعارضة الليبية على مدى سنين خدمته الطويلة بتنفيذ عمليات ملاحقة أعداء القذافي ومعارضيه في أنحاء المعمورة، لم يتمالك نفسه وهو يرى رفيق دربه يدوس على كل الخطوط الحمر، واستعدى كل أنظمة الأرض، ما عدا استثناءات قليلة، حتى بات النظام وأهله تحت سيف العقوبات الاقتصادية والملاحقات الجنائية، ومن أجل ماذا بعدما ضاعت الشعارات الثورية، وتمرد الشعب على زعيمه الأوحد الذي لم يعرف سواه لعقود، هل هو البقاء في الحكم، وماذا بقي لتوريثه إلى الأبناء؟ النسب اليهودي هل القذافي يهودي الأصل، أم هو ابن طيار كورسيكي؟ قد يبدو هذا بابا ولجه المعارضون للقذافي من أجل تشويه صفحته، وتشديد الحملة عليه، ولتفريق من بقي حوله. لكن الغريب أن إشاعة نسبه اليهودي ظهرت من إسرائيل نفسها وقبل سنوات عدة، أي حين بدأ القذافي رحلة العودة إلى المجتمع الدولي بعد طول عزلة، فادعت قريبتان له تسكنان إسرائيل أنه نسيب لهما، وأن جدته اليهودية أسلمت وتزوجت فولدت أم القذافي. الخبر نقلته مجلة إسرائيل توداي عن امرأتين قالتا للقناة الإسرائيلية الثانية العام الماضي إنهما من أقرباء الزعيم الليبي حيث أكدت غويتا براون وحفيدتها راشيل سعدا أن أصول القذافي يهودية وأن جدة براون وجدة القذافي هما شقيقتان. وبدأت القصة الغريبة عندما تزوجت جدة القذافي اليهودية رجلا من بني جلدتها ولكن أساء معاملتها فهربت منه وتزوجت مسلما زعيما لقبيلة، فأنجبت منه طفلة هي أم القذافي، ورغم أن جدة القذافي اعتنقت الإسلام عندما تزوجت ذلك الزعيم إلا أنها تبقى يهودية حسب القانون الإسرائيلي، وعليه فإن من حق القذافي الهجرة إلى إسرائيل واللجوء إليها بعد ثورة الشعب الليبي عليه، وذلك حسب القانون الإسرائيلي الخاص بعودة اليهود، بل إن المذيع الإسرائيلي في القناة الثانية أعرب عن اعتقاده أن بعض السلطات المحلية في إسرائيل ستكون سعيدة باحتضانها رئيسا عربيا سابقا! شعاراته من طرفة مستغربة إلى مأساة للشعب الليبي واللافت في ادعاء بارون قولها إنها سمعت بنسب القذافي من أمها، ولاحظت أن القذافي أصبح فعلا معاديا لليهود، مؤخرا فقط، فهو حسب تعبيرها: «أحب اليهود دائما، ولم يفعل أي شيء يسيء إليهم، وأنه في اللحظة التي بدأ فيها انتقاد اليهود بدأت التظاهرات ضده، بل إن ابنه سيتزوج امراة يهودية أو هو تزوجها فعلا في إشارة إلى سيف الإسلام كما تؤكد صحيفة معاريف الإسرائيلية». وفوق ذلك تؤكد مصادر كورسيكية أن القذافي نفسه هو ابن طيار فرنسي من جزيرة كورسيكا سقطت طائرته في ليبيا خلال الحرب العالمية الثانية واسم الطيار ألبرت برزيوسي الذي ولد عام 1915 وقضى نحبه في عام 1943 في مهمة قتالية فوق روسيا. والغريب أن بلدة هذا الطيار، تدعى فزاني vezzani فيما بلدة والدة القذافي تقع في سبها الجنوبية عاصمة إقليم فزان الليبي، فهل هي مجرد مصادفة جغرافية؟ وأهل هذه البلدة الكورسيكية الوادعة مقتنعون بالرواية التي تربط بين بطلهم القومي وبين زعيم ليبيا الأوحد، ويضعون صور الطيار في الأماكن العامة أكثر مما يفعلون بصور رئيس فرنسا نيكولا ساركوزي، وتحتل المخيلة الجماعية لفزاني الكورسيكية صلة النسب هذه التي لا يمكن لأحد فيها أن ينكرها خاصة عند علامات الشبه الواضحة بين الطيار الكورسيكي والعقيد الليبي.