إن تكن ساحتنا الأدبية والثقافية فقدت أحد روادها الكبار برحيل الشيخ عبدالله بن محمد بن خميس؛ فإن عزاءنا في فقده هو إنجازاته الأدبية التي لم ترحل برحيله.. لقد كان الشيخ ابن خميس واحدا من رموز نهضتنا العلمية الحديثة، كان عالما موسوعيا على طريقة العلماء الأوائل، فقد كان لغويا وأديبا وكاتبا صحفيا، وإعلاميا ناجحا، وشاعرا مجيدا، ألف عشرات الكتب في شتى المجالات.. ولأن المجال لا يتسع للحديث عن إنجازات الفقيد وإبداعاته، فسوف يكون الحديث هنا مقصورا على عنايته بدراسة المواضع الجغرافية. لقد مثل مع رفيق دربه علامة الجزيرة العربية الشيخ حمد الجاسر ثنائيا متميزا، فكما كان لهما الريادة في النهوض بالصحافة في المنطقة الوسطى، كان لهما الريادة في إيقاظ روح البحث الجغرافي الميداني لتحديد المواضع الجغرافية في بلادنا وربط ماضيها بحاضرها من خلال الغوص في كتب المتقدمين وجمع ما يتعلق بالموضع نثرا وشعرا، والوقوف على مواضع الديار والأطلال، وتحديدها والتنبيه إلى ما تغير من أسمائها. وأذكر أن أول موضوع كتبه عبدالله بن خميس في العدد الأول من مجلة العرب في رجب سنة 1386ه، كان بعنوان: «الشعر الشعبي ومعالم الجزيرة». ثم تتوالى بعد ذلك دراساته وأبحاثه الجغرافية في مجلة العرب وغيرها، ليتوج تلك البحوث بكتابه الشهير «معجم اليمامة» الصادر عام 1398ه /1978م، الذي لم يترك شاردة ولا واردة من مواضع اليمامة إلا سجلها وحدد موقعها واستقصى ما قيل عنها شعرا ونثرا، ووصفها بقلمه السيال حتى كأن القارئ يراها رأي العين ويطأ فوق ثراها، ويشم أريج زهورها. لقد مثل ذلك الكتاب في جزءيه الكبيرين حلقة مهمة من حلقات المعجم الجغرافي للملكة العربية السعودية، وهو ذلك المشروع الوطني الرائد الذي تفتقت عنه عبقرية حمد الجاسر ورفاق دربه وعلى رأسهم عبدالله بن خميس الذي يقول عن هذا الموضوع: «... منذ شدوت وأنا أعشق من جزيرة العرب مغانيها، وأتشوق سهولها، وأحن إلى مرابعها ومراتعها، وأحب جبالها ووهادها، ولا تشبع لي عين فيها من نظر، ولا أذن عنها من خبر، جعلت التجوال فيها هواية ودراسة، والوقوف على أطلالها ودمنها شوقا، أتمثل قول شاعرها وأمثله: إذا أنت لم ترع العهود لمنزلٍ فلست براعٍ حق أهلِ المنازلِ وقفت على كل صقع من أصقاعها، وذرعت كل ربع من ربوعها، وقرأت صفحاتها الملونة، وأديمها الرحب المتجعد.. أحب هذه الأرض وطنية، وأعشقها عاطفة، وأرتادها انجذابا، وأذرعها إحساسا قد يعوزني تعليله، ويعز علي إدراك كنهه، قد انطبعت صورتها في ذهني، وجسمت رقعتها في مخيلتي، فكانت لوحة ذهنية ناصعة تتراء لي ولا تغرب عن خاطري.. ورغم كل ذلك؛ فأنا أدين لأستاذي (الجاسر) بالسبق، وأعترف له بالفضل، وأحمد له هذا الجهد ...إلخ». (من مقدمة معجم اليمامة). ولم يقف عطاء عبدالله بن خميس المتدفق في جغرافية بلاده عند تأليف هذا السفر العظيم، لكن عشقه للجزيرة جعله يصدر أسفارا أخرى، مثل: «المجاز بين اليمامة والحجاز» الصادر عام 1390ه/ 1970م، ومثل: «جبال الجزيرة» الصادر عام 1410ه /1990م، و«أودية الجزيرة»، وما شابهها من أعمال خالدة تنم عن همة عالية، وقدرة بارعة جعلته واحدا من أبرز الجغرافيين الرواد في بلادنا، فرحمه الله رحمة واسعة، وجعل ما قدم من أعمال جليلة، في موازين أعماله..