عندما كنا صغارا كنا نسمع الكبار يتكلمون رطانة هي ليست كاللغات، كلماتها غير معروفة ونطقها صعب، وتعلمها يحتاج إلى وقت، لغة انتشرت في ذلك الوقت في كثير من الأحياء في مدن مختلفة، وإن اختلفت في نطقها وتشكيل كلماتها من حي لآخر ومن مدينة لأخرى، كنا ندهش ونحن نسمعها، وفي نفس الوقت نحاول تقليدها دون أن نعرف معانيها، وفي كثير من الأحيان كنا نتباكى أمام إخوتنا الكبار ليعلمونا كيف نفك شفرات تلك الكلمات التي كنا نستخدمها بحسب المواقف، بها نضحك، وبها نتآمر، وبها أيضا نخطط لمضاربة أو مشاحنة، فعلى تلك الطلاسم والرطانة من اللغات المختلفة نشأنا، وما زال في الذاكرة القليل مخزون منها. ما زلت أتذكر كلمة «رطخلا مداق» والتي تعني «الخطر قادم» أو «سر الخطر سر قادم» التي نعكس فيها الكلمات ونزيد كلمة سر. هذه الكلمات من يستمع إليها اليوم أو يحاول كتابتها يظنها طلاسم سحرية، وهي في الحقيقة كلمات لمعاني معروفة، فالإبداع في هذه الرطانة لا يتوقف عند هذا الحد، بل وصل ببعضهم أن أدخل على الكلمات العربية بعض الكلمات الجاوية، الأفريقية، البنغالية أو حتى التركية، وهذا واضح في حارات مكةالمكرمة لتصبح لغة خاصة بهم، بطلاقة عجيبة وحدهم يتحدثون بها، في حين أن بعض الآباء في ذلك الوقت كان يجهل معناها وبعضهم كان يتذمر لمجرد سماعها، فيما حرص بعض المعلمين على تعلمها وفهمها بكل صورها، حتى يفشلوا أي محاولات لطلابهم في الفصول وعند الاختبارات. مواقف طريفة وعجيبة في هذه «الرطانة»، التي حاولنا العودة من خلال هذه الأسطر إلى الماضي الذي استحضرناه من حي الطندباوي في مكةالمكرمة، وتحديدا من شارع جرهم، بعدها عرجنا إلى الروابي وغليل والمحجر في جدة، فماذا قالوا عن تلك اللغة. قرقال قلي خالد الحارثي من مكةالمكرمة، ما أن سمع عن الموضوع حتى ضحك كثيرا، وكان كلما حاول تمالك نفسه من الضحك عاد ثانية حتى وصل به الأمر إلى الضحك الهستيري، فلم نجد أمامنا سوى التبسم والانتظار لحينما يتمالك نفسه، بعدها أمسك بيدي وقال: ما الذي فكركم بهذا الموضوع، هذه لغة كنا نستخدمها لنتكلم بحرية دون أن يفهم أحد كلمة مما نقوله في ذلك الزمن الجميل، وكم أسعد وأنا أسمع من حين لآخر بعض صغار الجيل الحالي يتكلمون بلغة الرطانة، وإن كانت تختلف في بعض كلماتها عما كنا نقوله في زمننا، فتلك اللغة كانت تختلف من حارة إلى أخرى، وكانت كل حارة تحرص على ألا تتسرب شفرة تلك اللغة إلى الحارة الأخرى، حتى لا تنكشف حواراتنا ونقاشاتنا، يعود ثانية إلى الضحك ويواصل يا رجل كنا (نحش ونقطع) في الشخص وهو واقف بيننا ونتهكم عليه وهو لا يدري، بل ربما كان يضحك معنا وهو لا يعلم أننا نتكلم فيه غفر الله لنا جميعا، وكنا مثلا نزيد حرفين في وسط الكلمة الواحدة كقولنا، «قرقال قلي» بمعنى «قال لي» أو «إيش قار قلك» والتي تعني «ماذا قال لك». قار قشرد ويمسك بالحوار محمد الهوساوي، وهو أيضا من شارع جرهم في مكةالمكرمة ويقول: أنا من شارع جرهم يقال أن من هذا الشارع كانت تنطلق رحلة الشتاء والصيف، أما بالنسبة لهذه الرطانة فإلى الآن ما زال بعض أولاد الحارة يرددون بعض كلماتنا التي كنا نتحدث ونرطن بها، حتى أنني ما زلت أتذكر أن معلما في إحدى المدارس أراد أن يضرب أحد الطلاب بالعصا، وتنبه لذلك أحد زملائه فحذره إذ أطلق كلمة «قار قشرد» والتي تعني «عليك بالهرب» وإذا بالمعلم يرد قائلا: «قار قنتا ليش ما تقارقشرد» والتي تعني «وأنت لماذا لا تشرد» أي تهرب، عندها اكتشف طلاب الفصل أن المعلم متقن لتلك الرطانة وأخذوا العلقة معا. شلاقيا ملعبفتش ويعود خالد الحارثي بالحديث ثانية ويقول: ما قاله رفيق حارتي الهوساوي صحيح، أن بعض معلمي المدرسة في حارتنا كانوا أصلا هم من أهل الحارة ومن أبنائها، وبالتالي يعرفون تلك الرطانة وفاهمين لها ولهذا كان من المستحيل، بل ومن المستحيل الصعب أن الواحد منا يستطيع توظيف تلك الرطانة داخل المدرسة سواء في أيام الاختبارات أو غيرها من الأيام، لكن مع أبناء الحارات الأخرى الأمر مختلف، فقد كنا في كثير من الأحيان نخطط من أجل الهجوم على حارة لضرب أولادها لأي سبب دون أن يدركوا ما نخطط له تجاههم، بالرغم من جلوسهم بيننا، ونفس الحال كنا نواجهه من الحارات الأخرى يتآمرون علينا ونحن نضحك دون أن نفهم منهم كلمة واحدة. ولا يقتصر لجوؤنا لتلك الرطانة عند حد معين، فكثيرا ما كنا نستخدمها في مبارياتنا، وكانت هذه المباريات طامة كبرى إذ انكشف كثير من سر شفرة هذه الرطانة، ولإصرارنا على بقاء تميزنا لجأنا إلى طريقة أخرى, إذ وبحكم أننا من أولاد مكةالمكرمة ونتيجة وجود كثير من الجاليات فيها أدخلنا على كلماتنا العربية في أواخرها أو أواسطها بعض الكلمات الجاوية أو البنغالية، فقد كنا نحذف الحرفين الأولين من كل كلمة وهكذا كنا ننشىء جملا من الكلمات لا يعرفها سوانا، مثل استخدام كلمة «آقيا» في اللغة الأوردية التي تعني «آتى أو جاء» ونضيف إليها كلمة أخرى من لغة أخرى» مثال «محمد أقيا فتش» والتي تعني «محمد جاء» وكلمة «فتش» وهي من اللغة البوسنية أدخلناها لمجرد التشويش، ويضيف مثلا لو أردت أن أقول: «هيا نذهب للملعب» نقول «شلاقيا ملعبفتش»، ثم يزيغ ببصره إلى السماء ويغمضها ويطلق زفرة كبيرة ويقول نسأل الله العفو فقد كنا نستخدم تلك الكلمات في التهكم على الناس وإحراجهم في كثير من الأمور. تغريد البلابل ويتدخل علي المجرشي قائلا: لم نتوقف عند هذه الرطانة، بل عمدنا إلى إيجاد مصطلحات لبعض المواقف مثال كلمة «يو» والتي نستخدمها وما زال البعض يستخدمها والتي تعني «هلا ومرحبا» ونفس الحال لكلمة «نقز الجبل» والتي كنا نرددها تهكما على البعض إذا ما أطلق كذبة أو بالغ في موقف، كما أننا استخدمنا التصفير وبطريقة معينة مثلا إذا أردت أن يخرج لي خالد من البيت وخشية من أن يعرف والده نلجأ إلى التصفير بطريقة طائر القمري، ويتدخل خالد الحارثي ويقول: ذكرتني بوالدي عندما جاء أحدهم وغرد وإذا بوالدي يقول لي: أنت اصمخ ما تسمع البلبل حقك يغرد لك، وهذا يعني أن آباءنا كانوا يعرفون أسرار تلك الرطانة والمصطلحات؛ لكنهم كانوا ينكرون معرفتهم بها حتى يكشفوا كل أسرارنا. هبات وهابيا ومن منطقة الشميسي يقول محمد الحربي، هذه الرطانة وصلت حتى القرية، فقد كنا نستخدمها وأتذكر من كلماتنا إذا أردنا أن نسأل عن حال أحدنا قلنا له «كيف حبببالك» وهبات التي تعني «هات» وهابيا التي تعني «يالله مشينا» أي سرنا. ببلاما غليل ويقول ماهر عوض السلمي(من حي الروابي في جدة)، والله لم أعد أذكر من تلك الرطانة إلا القليل، وأعتقد أنها انقرضت الآن؛ لكن أذكر بعض المصطلحات التي كنا نستخدمها، ومنها إذا رغبنا في السخرية بأحدهم قلنا «سرها بتشديد الراء» أو نطقنا كلمة «ببلط» بمعنى أترك عنك وإذا رغبنا في السخرية أكثر به نطقنا «ببلاما» أي ما عنده سالفة، فيما كنا نستخدم كلمة «هذا لبدة» للشخص الذي يرفض أي شخص المغادرة معنا، فيما نقول للشخص الثقيل الدم «هذا غليل»، أما إذا كنا مجموعة ورغبنا في الافتراق عن بعضنا في سرعة شديدة قلنا «يا شباب طنبقة» في غمضة عين كل واحد منا يسلك طريقا غير طريق الآخر كأن كل واحد فينا لا يعرف الآخر ولم يلتق به من قبل. ويسترجع الماضي ويقول: وإذا كان أحدهم حزينا وجاء أحدهم وحاول التحدث معه وهو لا يريد مبادلة الحديث قال له «فرفشة»والتي تعني «يرحم أمك وأبوك اتركني في حالي». وفي حي المحجر في جدة يقول إبراهيم القنفذي: كنا ماهرين في «رطانتنا» التي لم يكن لها حدود في توليف كلماتها، فما زلت أتذكر إذا كنا مجتمعين وشعر أحدنا بالعطش دون أن يستطيع شراء قارورة ماء وحتى لا يحرج أمام الآخرين في طلب شراء ماء من البقالة، نطق قائلا «يا شبا واح منك يتبر بشرا مابار مالبقال» وهذه الرطانة كانت تعتمد على إلغاء الحرف الأخير من كل كلمة حتى أنها تظهر لمن لا يعرفها أنها لغة أثيوبية بينما المسألة اختصرت على ابتلاع الحرف الأخير من كل كلمة في زمن كان كل شيء فيه جميلا.