المدن كالنساء، إما أن تكون جميلة وباهرة وساهرة وماهرة، جميلة بما لديها من إمكانيات وكماليات، وباهرة في حضورها وفي ملء المكان ولفت الأنظار والنظارة، وساهرة على الدوام على تجميل نفسها من الداخل والخارج على مستوى العقل وعلى مستوى الجسد، وماهرة في اصطياد وجذب المحبين والمعجبين والزائرين، هكذا هي المدن الجميلة أكثر استقبالا وانحيازا لزائريها لعاشقيها، لا أكثر نفورا من هؤلاء العاشقين الزائرين. في الأسبوع الماضي كنت على موعد مع مدينة جميلة مفتوحة على أفق إنساني، مدينة مصرية بنكهة أوروبية وهي مدينة شرم الشيخ، وهي زيارتي الأولى لها بدعوة كريمة من الأستاذ محمد ثروت وهو أحد رجالات السياحة في مصر برفقة زملاء إعلاميين، وقد أتاحت هذه الزيارة أن أطل على مصر من نافذة أخرى لها لقد رأيت القاهرة لسنوات عديدة وخلال زيارات مختلفة وكذلك مدينة الإسكندرية الباهرة والجميلة في أجوائها وثقافتها الشرق أوسطية، القاهرة تلتقي فيها الحضارات الفرعونية والإسلامية والفاطمية والمملوكية، هي مزيج من حضارات وثقافات، وفيما تتميز بروح الأحياء الشعبية، تجد في الإسكندرية جوا آخر مناخا آخر وثقافة أخرى، حيث مولد سيد درويش ويوسف شاهين وعمر الشريف، وعاش فيها الشاعر اليوناني الكبير كفافيس.. مدينة شرق أوسطية بامتياز. في شرم الشيخ أنت أمام مدينة مصنوعة مدينة بلا إرث حضاري ليست مدينة ذاهبة في التاريخ، مدينة تم هندستها وتخطيطها لتكون مدينة مفتوحة على العالم إلى فضاء أممي، تجد السياح الروس والإيطاليين والإنجليز والفرنسيين وكل الجنسيات الأوروبية مع جنسيات عربية، يشكل السعوديون بخاصة والخليجيون بشكل عام نسبة كبيرة من السياح العرب، غير أن اللافت هو إن شرم الشيخ مدينة سياحية تمثل حالة خاصة واستثنائية في المدن العربية إدارة مصرية ربما كانت خروجا على نمطية الإدارة البيروقراطية السائدة في مصر والعالم العربي مع وجود وعي سياحي عالي المستوى وهو وعي يستند على رؤية منفتحة وغير منغلقة، وهو وعي يرى الأشياء بذاكرة منفتحة وإدارة تحررت كثيرا من سلطة الفكر الإداري السياحي المتبع والسائد في كثير من الأماكن السياحية في العالم العربي، وهو ما يعطيك مؤشرا على أن مدينة شرم الشيخ صنعت لتكون نموذجا استثنائيا في المدن العربية، مدينة تنتمي للتربة المصرية، فيما هي بالمقابل تنتمي للذهنية الأوروبية، وفي الحديث الممتع مع وكيل السياحة الأستاذ الدكتور سامي محمود ثمة طموح حقيقي وخلاق بضرورة الاتجاه إلى تكريس وضع هوية مصرية وعالمية لمدينة شرم الشيخ بعيدا عن صخب القاهرة، إنها منتجع للنخبة وليس للحرافيش للصفوة وليس للبسطاء وينبغي أن تكون كذلك حتى لا تسقط في المجانية والاستهلاك اليومي وحتى لا تغرق في الشعبية المبتذلة، ولكن ما يلفت النظر وبالرغم من وجود سكن الرئيس السابق حسني مبارك ورموز النخبة المصرية كان حديث الناس في شرم الشيخ خلال الأسبوع الماضي هو حبس الرئيس وابنيه جمال وعلاء 15 يوما على ذمة التحقيق، وحالة الجدل والسجال مع النخبة المثقفة المصرية في شرم الشيخ، بدءا من الأستاذ سامي محمود والأستاذ عماد عزيز إلى الأستاذ سالم صالح مدير مكتب هيئة السياحة في جنوبسيناء، والتي جعلت الوفد الإعلامي السعودي يطل على ثورة 25 يناير، بدءا من إرهاصاتها ومسبباتها وانتهاء إلى تداعياتها العاصفة ووضعنا في المشهد المصري عن قرب، فيما وضعتني أنا المتابع للحالة المصرية في الفكر والسياسة والمجتمع وعلى مدى أكثر من ثلاثين عاما أمام صورة تقدم من الداخل المصري وتحديدا من خلفيات المشهد المصري الذي يقرأ ويرى في الإعلام المصري العام والخاص عبر القنوات الرسمية وغير الرسمية وعبر صحف الحكومة والمعارضة وإن تسمع من النخب المصرية والذين يملكون ويعرفون الكثير من الخطوط الصغيرة والكبيرة من الأفكار والتيارات والأحزاب التي تحرك مسار الحياة السياسية في مصر، والإيمان بأن جيلا جديدا هو الذي يقود حركة التغيير في مصر والعالم العربي، وهو جيل يتجاوز فكر وذهنية الأجيال القديمة وأدبيات وثقافة الأحزاب السياسية التقليدية في مصر تحديدا. كانت الرحلة من جدة إلى شرم الشيخ مباشرة، وعلى مدى أربعة أيام رأيت فيها مدينة مختلفة بإدارة مختلفة وغير تقليدية تكسر نمطية الإدارة السياحية وتؤكد على عافية الحياة المصرية وصحة الذهنية المصرية في كل المواقع والمواقف، في الهدوء والصخب في السلم والحرب في قمة الأزمات وفي أحلك الأزمان في السياسة والسياحة في الفكر والأدب. لقد كان سؤالي لماذا تغيب المكتبة عن مدينة شرم الشيخ، وكان جواب وكيل وزارة السياحة الأستاذ سامي محمود، إن الخواجات يصطحبون كتبهم معهم، وكل سائح يأتي وفي يديه كتاب وأكثر من كتاب، لكن هل يرتكب السائح العربي هذا الفعل الثقافي الجميل. إن السياح الغربيين يعيشون حياتهم كما هي، كما لو أنهم في بلدانهم بحرية ولكن باحترام كبير للخصوصية المصرية للمكان الذي جاءوا إليه، فيما ينقل السائح العربي ثقافته وعاداته وفوضاه إلى كل مكان يأتي إليه، وهنا يبرز الفارق بين سائح متحضر أتى من خلفية اجتماعية حضارية، متصالحا مع نفسه ومع ما حوله ومن حوله، وسائح يأتي من خلفية اجتماعية وبيئة تفتقر إلى التراكم المعرفي والحضاري ويتصرف كبدوي لا زال يعيش في الصحراء. في مدينة شرم الشيخ رأيت منزل الرئيس السابق حسني مبارك، الذي تحول إلى معتقل ورأيت المستشفى الذي يتلقى العلاج فيه، الرئيس الغارق في حزنه وكآبته فيما تحول هذا المستشفى، الذي بني على شكل هرم، إلى ثكنة عسكرية وفيما تغرق مدينة شرم الشيخ في أضوائها وسهرها وشاطئها الجميل وخليج نعمة وفنادقها الأنيقة السهرانة للصباح وشوارعها الضاجة والصاخبة في الباحثة عن عالم جميل، عالم يهرب إلى الدنيا أكثر من هروبه إلى أي شىء آخر. [email protected] للتواصل أرسل رسالة نصية sms إلى 88548 الاتصالات أو 636250 موبايلي أو 737701 زين تبدأ بالرمز 203 مسافة ثم الرسالة