الجدل السياسي الدائر حول التدخل الإيراني في المنطقة العربية، بات من أكثر النقاشات الحادة على المستوى العربي والإقليمي. وهناك مسلمات لا بد الاقتناع بها حول هذا النقاش، وفي الوقت ذاته ثمة اختلاف على مرامي التدخلات الإيرانية. ومن مسلماتها السياسية، الطموح الإيراني أن تكون لاعبا جيوسياسيا رئيسا في المنطقة، وخصوصا الخليجية. وهي تطلعات إيرانية واضحة منذ حرب الخليج الأولى، ومنذ وصول نظام الملالي إلى الحكم عقب سقوط الشاه الإيراني في 1979، إذ تبنى الخميني مفهوم تصدير الثورة، وهي بشكل أو بآخر محاولة للسيطرة الأيديولوجية على المنطق. إلا أن هذه المساعي اصطدمت بسدود السياسة الخليجية الرافضة للهيمنة والتدخل الخارجي. وبعيدا عن تفاصيل ودهاليز التاريخ السياسي، خلاصة القول إن التدخل الإيراني في المنطقة بات صرخة واضحة لكل مراقب سياسي. فبعد سقوط نظام طالبان في أفغانستان عام 2001 انطلقت إيران بكل ما تملك إلى الساحة الأفغانية لتكون أحد اللاعبين الرئيسين في هذا البلد. وجندت الحرس الثوري وأجهزة المخابرات لتتموضع بشكل أو بآخر في بلد ضربت في أطنابه الفوضى. ولعل التقارير الأمريكية الأخيرة، التي أثبتت دون شك تلقي الرئيس الأفغاني حميد كرزاي أموالا من إيران كانت آخر الدلائل على هذا التدخل. ولم تكد تمضي سنتان على احتلال أفغانستان، حتى بدأت الحرب الأمريكية على العراق، لتدخل طهران بكل طاقاتها إلى الجار اللدود وتسيطر بشكل مباشر على الحياة الميليشيوية، وتنشر فرق الموت في كل أنحاء العراق. وبالفعل تمكنت إيران من بسط سيطرتها على الحياة السياسية في العراق، وجذب معظم الشخصيات السياسية المذهبية بحكم التوافق العقدي، وباتت معظم مفاتيح اللعبة السياسية العراقية في الملعب الإيراني. بل إن العملة الإيرانية «التومان» أصبحت من العملات الرائجة والمعتمدة في البصرة جنوبي العراق. وأصبح الفضاء الجغرافي الإيراني مفتوحا في اتجاهين نحو الشرق مع أفغانستان، ونحو الغرب مع العراق. وبطبيعة الحال ساهمت التكوينات الاجتماعية العرقية والمذهبية، فضلا عن العامل الجغرافي في توغل النفوذ الإيراني. الأمر الذي أصبح حتى هذه اللحظة خطرا مستقبليا على المنطقة. إيران لم تخف يوما في ممارساتها السياسية أطماعها في المنطقة والتوسع، رغم المنابر السياسية التي تدعي أنها غير معنية بالتدخل في الشؤون الداخلية لدول الجوار. وتعمل الفلسفة السياسية الإيرانية على استغلال التطورات الجيوسياسية في المنطقة العربية، وهذا ما لمسناه في الحالة اللبنانية في زرع حزب الله وغيره من الدول العربية، الذي بات منظمة تابعة آيديولوجيا لمركز القرار السياسي في طهران. وبعد التطورات السياسية في الشرق الأوسط، كان الأخطبوط الإيراني يعد لعملية تدخل جديدة في المنطقة. وهنا تم القبض على طهران متلبسة بالجرم المشهود بقضايا التدخل السافر. إذ أثبتت الأحداث الأخيرة في البحرين أن إيران تسيرها عقلية الهيمنة الواضحة، والتدخل في الشؤون الخارجية، لكنها اصطدمت بحاجز سياسي حكيم ومدرك لأبعاد وخطورة هذا التدخل في البحرين. وفي هذا السياق قررت الإرادة الخليجية أن يكون لقوة «درع الجزيرة» الكلمة الفصل في هذا التدخل. وكانت النتيجة أن تمركزت هذه القوة في البحرين، دون أن تتدخل في مجريات الأحداث السياسية، بل كان وجود هذه القوات حفظا للاستقرار العام. في الواقع، من يقرأ التطورات السياسية في البحرين يدرك تماما، أن إيران كانت منذ اللحظة الأولى تعمل بصمت وبشكل مكثف على زعزعة استقرار المنامة. وعندما حسمت قوة درع الجزيرة الموقف لصالح استقرار البحرين وقطع الطريق على أجهزة الحرس الثوري الإيراني، ظهرت ردود الفعل الحقيقية للنظام الإيراني. وتجسد ذلك في الاعتداء على سفارة المملكة في طهران، ومن ثم اعتلاء كبرى شخصيات النظام المنابر لشن هجوم على المملكة والبحرين وكل دول الخليج، وجاء الرد الخليجي بكل حكمة من خلال الاجتماع الأخير في الرياض مطلع الشهر الجاري الذي وضع حدا لهذه التدخلات. لقد أرادت إيران استغلال الأحداث الأخيرة في البحرين ليكون لها موطئ قدم جديد في الخليج. وبمعنى آخر أرادت تحويل البحرين إلى «بصرة» ثانية تروج فيها العملة الإيرانية «التومان». لكن الموقف السياسي الخليجي الموحد، كان رادعا بكل المقاييس، وانكفأت إيران ونظامها السياسي وراء المنابر لتشن الهجوم السياسي على دول الخليج. [email protected]