على الرغم من هيمنة الاستخبارات الغربية بشكل عام والأمريكية بشكل خاص، نظرا لما يمتلكونه من أجهزة ووسائل وعناصر متطورة بما في ذلك أقمار التجسس المنتشرة حول الكره الأرضية، وخاصة المنطقة العربية، إلا أن هذه الاستخبارات قد فشلت في قياس تحركات الشعوب العربية وتحديد الأهداف التي تسعى إليها، فكانت الشرارة الأولى في ثورة تونس ثم تبعتها ثورة مصر ثم ليبيا واليمن، ولم يكن الفقر هو المحرك الأساسي لها، وإنما كان عاملا من عدة عوامل أخرى تشمل حرية الإنسان وكرامته، والعدل بين كافة شرائح وطبقات المجتمع، وإتاحة الفرص بالتساوي للتوظف والترقي والإبداع، ومكافحة الفساد الإداري والمالي الذي استشرى في كافة الهياكل والمستويات الإدارية في تلك الدول عبر سنين طويلة أدى إلى تآكلها وعجزها على توفير الحاجات الضرورية للشباب بصفة خاصة والمواطنين بصفة عامة، ولم تعد الأجهزة الرقابية قادرة على مواجهة تنامي هذا الفساد، مما أدى إلى المزيد من الاحتقان لدى هذه الشعوب، وعدم الشعور بالثقة في السلطة السياسية وما تبديه من خطط وحلول ووعود، خاصة أن الشريحة الوسطى من الشعوب المحركة للاقتصاد الوطني تتآكل، وتتعاظم الثروة لدى قلة من رجال الأعمال ومن هم ممسكون بزمام السلطة ومن حولهم، هذه التراكمات وصلت للحد الذي لا يمكن تحمله أو السكوت عليه، فكان التحرك التقني عبر الإنترنت والفيسبوك وتويتر وخلافه، لمقاومة تفشي ظواهر الظلم والاستعباد وكبح الحريات وسلب الحقوق والاستهتار بآدمية الإنسان الذي كرمه الله سبحانه وتعالى، عبر آليات الرشوة والمحسوبية وبسطوة الترهيب والعقاب والبيروقراطية المتهالكة، لإسقاطها وفرض أنظمة سياسية أخرى تقود البلاد إلى مصاف أنظمة القرن الواحد والعشرين بفكر وأساليب ونهج جديد، يرفض كل ما له علاقة بالنظم السابقة. غير أن النظم السياسية العربية لا تستفيد من التاريخ ولا تتعايش معه، والثورات الحالية خير دليل على ذلك، والواقع السياسي العربي هو إفراز لسيرورة سياسية تاريخية تم تأطيرها بأيديولوجيات هي نتاج المرحلة الكولونولية (مرحلة الاستعمار) ثم من بعدها مرحلة إزالة آثار الاستعمار التي أفرزت مبادئ وشعارات قومية ضللت الشعوب لسنوات طويلة، وبالقطع هذه الأيديولوجيات والخطاب السياسي لتلك المرحلتين لم تعد مقبولة لدى شعوب وشباب الإنترنت والفيسبوك والتويتر، لأنها قديمة ولا تمت لواقعهم في القرن الواحد والعشرين بأي صلة، فهم لم يعيشوا الاستعمار أو تبعاته لكي يؤمنوا بها أو يصدقوها، وإنما هم يعيشون الواقع ويقيمونه بكل محتوياته، ويبحثون عن هويتهم وذاتهم، يبحثون عن كرامتهم وآدميتهم ومستقبلهم، يبحثون عن حرياتهم التي تمكنهم من إظهار قدراتهم ومواهبهم وإبداعاتهم، يبحثون عن العدالة والمساواة في إتاحة الفرص والتوظف والترقي وتنمية الدوافع لديهم لبناء مستقبل قوي وحقيقي وواعد، يبحثون عن أدوار حقيقية للمساهمة في إدارة شؤون الدولة الاقتصادية والاجتماعية والسياسية والثقافية والأمنية من أجل وضع بلادهم ضمن مصاف الدول المتقدمة علميا وتقنيا وصناعيا وأمنيا والإحساس بذلك، يبحثون عن هوية واحدة هي المواطنة الحقيقية وبمعزل عن الفئوية أو القبلية أو المناطقية أو الاجتماعية أو المذهبية، هذا هو جيل اليوم، جيل العلم والمعرفة والتقنية المتسارعة والمتجددة، جيل الحرية والإبداع والمبادرات، وقد أثبت التاريخ أن الشعوب هي صاحبة السلطة، وهي من تمنحها لبعض الأفراد لإدارة شؤونها وفق قيم وأسس الحرية والعدالة والمساواة والشورى، وتراقب أداءهم وتصرفاتهم على مدى السنوات جيلا بعد جيل، وتحاسبهم على أدائهم وأفعالهم وفسادهم عبر الأجهزة الرقابية والقضائية المتاحة حتى وإن طال الزمن، فإن لم تنجح في ذلك واستفحل الأمر في الظلم والفساد والاستعباد وإهدار آدمية الإنسان وكرامته، ثارت هذه الشعوب على أنظمتها لتسترد منها سلطتها، وتستبدلها بسلطة أخرى لتثأر لكرامتها وحقوقها وتنشئ شرعية سياسية أخرى جديدة تحقق لها مطالبها وأهدافها، هذا هو المفهوم القانوني والسياسي للعقد الاجتماعي بين الشعوب والنظم الحاكمة، وفي هذا الشأن الشعوب دائما تنتصر مهما طال الزمن ولا ينتصر عليها أبدا مهما كان طغيان النظم العسكرية والجماهيرية. والله المستعان. [email protected]