مع حركة الاحتجاحات الضخمة في بعض الدول العربية ، بتنا نسمع خطابات إصلاح تركز على رفع الرواتب ، وفسح المجال للحريات ، وإلغاء قانون الطوارئ ، انتهاء بعدم الترشّح مدى الحياة ! ولو تأملنا في هذه المطالب لوجدناها في الأصل حقوقًا عانت شعوب تلك الدول طويلاً من نيلها ، والتمتع بها ، واضطرت حكوماتها أن تقول هذه المطالب على شكل نظم ودساتير بلغة البراءة والشفقة، والرغبة في الديمقراطية ، مع القول للشعوب: سنلبي كل ما تريدون ، وستعيشون بما كنتم تحلمون ، وكأن ما أرادوه وكانوا يحلمون به وُلد في لحظة ! لقد صرح الرئيس الأمريكي (أوباما) هذا الأسبوع أن الوضع في الشرق الأوسط خرج عن القدرة على التصدّي ، واستيعاب متغيراته ! حتى أن أحد المفكرين السياسيين (جوان كول) تحدث عن الاستعمار الأوروبي للشرق الأوسط بضعة عقود ، الذي خسر فيه دوره ، ثم حال بعض الشعوب العربية التي رزحت تحت أنظمة الدولة (مصاصة الدماء) -حسب تعبيره- لتجد نفسها بلا نظام أو شرعية !. وكل ذلك قيل وسيُقال لأن هذه الشعوب العربية بدت مستعصية على الظلم المرير ، وتحمل كل تبعاته وآلامه ، حتى لو لم يستوعب (أوباما) وإدارته طبيعة المتغيرات المفاجئة ، والتي لم تستطع أجهزته التنبؤ بها ! إن الذي حصل من ثورات في الوطن العربي رغم استنزاف الكثير من الدماء ، هو نقطة من بحر الآلام والأحزان الخانقة التي دمرت الإنسان ، وأفقدته القدرة أن يكون مسالمًا بالدون ليوم واحد ، بل لدقيقة واحدة ، وإلاّ فما هو مبرر تحملها رغم قلتها لآلات العداد ومشاهدة سيول الدماء ؟! إن الثورات في بعض الدول العربية جعلت شعوبها تقلِّب النظر في كثير من الأوضاع ، والاهتمامات ، وإدراك حجم القدرات .. وباتت تلك الشعوب أوعى من الرضا بالذل والاستعباد والتسلط والفساد ، كما باتت في الوقت ذاته حريصة أن تعيش في ظل الأمان وتمام الحرية والمشاركة الفعلية في بناء المجتمع . لا شك أن الصور التي حدثت في مصر وتونس وليبيا وسوريا واليمن وعُمان ، والأردن ، متفاوتة نتيجة لتفاوت الفساد . وإنه وللأسف الشديد أن تستمر بعض الحكومات العربية في التفكير بنفس أدوات محاسبة الأفراد والمؤسسات ، بل بنفس أدوات التخويف والتحذير الأمني والتشويه الإعلامي المكذوب والواهي ، ولم ينتبهوا ، أو فقل لم يشأ الله لهم أن ينتبهوا أحيانًا أن الضغط المستمر والعنيف لم يولد مع (طول الزمن) إلاّ آلامًا مضاعفة لتلك الحكومات بنفس الحجم ! ودوننا ما حدث في مصر من قِبَل جماعات العنف ، التي مارست نفس الدور ، بل أشد رغم كل سنين التعذيب والترهيب ! وقل مثل ذلك في إيران الفارسية ، ليتقرر أن الإنسان هو نفس الإنسان في بحثه عن الكرامة والعيش الكريم بعيدًا عن هويته وانتمائه . والمشكلة الأخرى التي باتت عصيَّة على كثير من الحكومات عدم تقدير أثر المتغيرات الحديثة والمستجدات التقنية المتسارعة ، التي شكلت بمجموعها حالة معرفية وتكوينية للعربي المعاصر . ولذا لم يكن من حل حقيقي لهذه المطالب الأساسية سوى التوافق بين هذه الشعوب وتلك الحكومات على الحقوق ، ومبدأ المشاركة الوطنية واحترام سيادة الشعب وحريته وكرامته ، والتصدي للظلم والفساد ، بموجب مواثيق وآليات العصر الحديث ، فضلاً عن العودة لقيم الإسلام وأصالته .