في ساحة الفكر العربي المعاصر تحددت إشكالية التعامل مع فكرة العقلانية في اتجاهين متشابكين، اتجاه يتسم بطابع التنكر والإهمال، وقد يصل إلى حد الطمس والإلغاء، ويتعلق بطريقة التعامل مع فكرة العقلانية في الإسلام والثقافة الإسلامية، واتجاه يتسم بطابع الدهشة والانجذاب، وقد يصل إلى حد التبعية والافتتان، ويتعلق بطريقة التعامل مع فكرة العقلانية في أوروبا والثقافة الأوروبية. ومنشأ هذه الإشكالية المزدوجة يرجع بصورة عامة إلى عاملين أساسيين، عامل ذاتي له علاقة بالأفراد والأشخاص، وعامل موضوعي له علاقة بمعادلات التقدم والتراجع. العامل الأول له طابع تكويني، ويتصل بطريقة التكوين الثقافي والذهني والنفسي عند شريحة من المثقفين التي انفتحت من جهة على الثقافة الأوروبية، وتعلقت بها تعلما وتعليما، مطالعة وبحثا، وحتى إمتاعا ومؤانسة، وانغلقت من جهة أخرى على الثقافة الإسلامية، وقطعت الصلة بها، بين من أنسلخ عنها، وبين من انقلب عليها، وبين من جهل بها. ومعظم من ينتمون لهذه الشريحة هم من الذين درسوا وتعلموا في الجامعات الغربية، الأوروبية والأمريكية، وهناك اكتسبوا ثقافتهم، وحصلوا تعليمهم، وحضروا وناقشوا بحوثهم وأطروحاتهم العليا، وكانت برعاية وإشراف باحثين ومستشرقين أوروبيين وأمريكيين. وبعضا من هؤلاء بقي هناك، إما بدواعي البحث والتدريس في الجامعات والمراكز، وإما بدواعي التكيف مع نمط العيش والحياة الأوروبية وتفضيله على نمط العيش والحياة الشرقية، وإما بدواعي لها علاقة بالتضييق على حرية التعبير عن الرأي، وتقلص هامش الحريات العامة، وتردي حقوق الإنسان في البلاد العربية والإسلامية. والمكاشفات التي جاءت من بعض هؤلاء المثقفين، كشفت عن طبيعة العوامل والبيئات المؤثرة في ارتباط هؤلاء المثقفين بالثقافة الأوروبية، وانقطاعهم عن الثقافة الإسلامية، وفي هذا النطاق يمكن الإشارة إلى شهادتين، شهادة من المشرق العربي تلفت النظر إلى تأثيرات الثقافة الأوروبية في جانبها الأنجلو سكسوني، وشهادة من المغرب العربي تلفت النظر إلى التأثيرات الثقافة الأوروبية في جانبها الفرانكفوني. الشهادة الأولى أشار إليها الدكتور زكي نجيب محمود، الذي كان على درجة عالية من الوضوح والصدق، واكتسبت هذه الشهادة شهرة واهتماما، وأهمية أيضا، في هذه الشهادة التي أوردها في مقدمة كتابه (تجديد الفكر العربي) الصادر سنة 1983م، يقول الدكتور زكي نجيب محمود: إنه واحد من ألوف المثقفين العرب الذين فتحت عيونهم على فكر أوروبي قديم أو جديد، حتى سبقت إلى خواطرهم ظنون، بأن ذلك هو الفكر الإنساني الذي لا فكر سواه، لأن عيونهم لم تفتح على غيره لتراه، ولبثت هذه الحال مع كاتب هذه الصفحات أعواما بعد أعوام، الفكر الأوروبي دراسته وهو طالب، الفكر الأوروبي تدريسه وهو أستاذ، والفكر الأوروبي مسلاته كلما أراد التسلية في أوقات الفراغ، وكانت أسماء الأعلام والمذاهب في التراث العربي، لا تجيؤه إلا أصداء مفككة متناثرة كالأشباح الغامضة، يلمحها وهي طافية على أسطر الكاتبين.. ثم أخذته في أعوامه الأخيرة صحوة قلقة، فلقد فوجئ وهو في أنضج سنيه، بأن مشكلة المشكلات في حياتنا الثقافية الراهنة، ليست هي كم أخذنا من ثقافات الغرب، وكم ينبغي لنا أن نزيد. [email protected] للتواصل أرسل رسالة نصية sms إلى 88548 الاتصالات أو 636250 موبايلي أو 737701 زين تبدأ بالرمز 115 مسافة ثم الرسالة