مغادرة الطائرة الإغاثية السعودية العاشرة لمساعدة الشعب السوري    انخفاض درجات الحرارة على منطقتي الرياض والشرقية اليوم    أمسية شعرية مع الشريك الأدبي يحيها وهج الحاتم وسلمان المطيري    الأمير سعود بن نهار يلتقي مدير إدارة المساجد بالمحافظة    «واتساب»: اختبار تبويب جديد مخصص للذكاء الاصطناعي    الهلال الأحمر بعسير: تعزيز الاستعدادت ورفع الجاهزية للحالة المطرية    «سهيل والجدي» ودلالات «الثريا» في أمسية وكالة الفضاء    «هيئة الشورى» تحيل مشاريع أنظمة واتفاقيات للعرض على المجلس    مواد إغاثية سعودية للمتضررين في اللاذقية    قوة الوظائف الأمريكية تقضي على آمال خفض الفائدة في يناير    سورية الجديدة    خيسوس يعد الزعيم للمحافظة على «الصدارة»    شبح الهبوط يطارد أحد والأنصار    الخريجي يعزز العلاقات الثنائية مع إسبانيا    نغمة عجز وكسل    الراجحي يضيق الخناق على متصدر رالي داكار    محمد بن عبدالرحمن يواسي الخطيب والبواردي    سعود بن بندر ينوّه باهتمام القيادة بقطاع المياه    العلاقة المُتشابكة بين "الذكاء الاصطناعي" و"صناعة المحتوى".. المحاذير المهنية    «موسم الرياض» يسجل رقماً قياسياً ب16 مليون زائر    11,000 فرصة وظيفية لخريجي «التقني والمهني» في 30 يوماً    الصحي الأول بالرياض يتصدر التطوع    "الأحوال المدنية" تقدم خدماتها في 34 موقعًا    أمير نجران يستقبل مدير الجوازات    جامعة الملك سعود تنظم «المؤتمر الدولي للإبل في الثقافة العربية»    «التربية الخليجي» يكرم الطلبة المتفوقين في التعليم    أمير الشمالية يطلع على أعمال جمرك جديدة عرعر    المسجد النبوي يحتضن 5.5 ملايين مصل    السجائر الإلكترونية.. فتك بالرئة وهشاشة بالعظام    طالبات الطب أكثر احتراقاً    برشلونة يقسو على ريال مدريد بخماسية ويتوّج بالسوبر الإسباني    يِهل وبله على فْياضٍ عذيّه    أمير القصيم يرعى المؤتمر العالمي السادس للطب النبوي    متفرّد    خرائط ملتهبة!    لمسة وفاء.. المهندس أحمد بن محمد القنفذي    قصر بعبدا.. بين عونين    سيتي يتطلع لحسم صفقة مرموش    الأهلي يسابق الزمن للتعاقد مع أكرم عفيف    الأمم المتحدة تحذر من كارثة إنسانية في غزة    لبنان الماضي الأليم.. والمستقبل الواعد وفق الطائف    جميل الحجيلان    السباك    في موسم "شتاء 2025".. «إرث» .. تجربة ثقافية وتراثية فريدة    «ولي العهد».. الفرقد اللاصف في مراقي المجد    تمكين التنمية الصناعية المستدامة وتوطين المحتوى.. قادة شركات ينوّهون بأهمية الحوافز للقطاع الصناعي    هل نجاح المرأة مالياً يزعج الزوج ؟!    مطوفي حجاج الدول العربية الشريك الاستراتيجي لإكسبو الحج 2025    155 مليون ريال القيمة السوقية للثروة السمكية بعسير    أغرب مرسوم في بلدة إيطالية: المرض ممنوع    هل أنت شخصية سامة، العلامات والدلائل    المستشفيات وحديث لا ينتهي    7 تدابير للوقاية من ارتفاع ضغط الدم    مباحثات دفاعية سعودية - أميركية    أمير الرياض يؤدي صلاة الميت على والدة الأميرة فهدة بنت فهد بن خالد آل سعود    جدل بين النساء والرجال والسبب.. نجاح الزوجة مالياً يغضب الأزواج    أمير القصيم يشكر المجلي على تقرير الاستعراض الطوعي المحلي لمدينة بريدة    الديوان الملكي: وفاة والدة الأميرة فهدة بنت فهد بن خالد آل سعود    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



null
نشر في عكاظ يوم 28 - 01 - 2011

أعترف أن حواري مع الوزير المفوض سابقا في وزارة الخارجية السعودية محمد يوسف طرابلسي ظل على مدى ثلاث ساعات شبيها بالقفز فوق الأشواك .. فرغم تقاعده من العمل السياسي منذ ست سنوات وتفرغه للمحاماة حاليا، وصل إلى أبعد مدى في الإجابة الدبلوماسية، متفاديا خطر الوقوع في أحبال الأسئلة الناعمة، خصوصا ما يتعلق بتفاصيل مسؤوليته عن الملفين الإيراني والأفغاني في أخطر مرحلة شهدتها السبعينات الميلادية باندلاع ثورة الخميني والاحتلال السوفييتي لأفغانستان. الرجل الذي دفعه عشقه لمدينة جدة إلى مهاجمة رواية ترمي بشرر للروائي عبده خال واتهامه بتلويث صورة المجتمع الجداوي، بادر من جهته بتوثيق تاريخ جدة ناسفا مسلمات ومعلومات مازالت مثار جدل بين أهاليها القدامى. استبعدت من حديثه أكثر مما سجلت استجابة لرغبته ورغم ذلك لم يخل كلامه من نقد لاذع لبعض السفراء العرب الذين عرفهم عن قرب، وفوجئ بضحالة ثقافتهم في ذروة الصراع العربي الإسرائيلي لدرجة أنهم لا يحفظون النشيد الوطني ولا يعرفون حدود بلدانهم. الوزير المحامي كشف عن معاناته خلال ست سنوات في المحاكم، وقال بصراحة إن التقاعد في الستين لا يتناسب مع العمل الدبلوماسي، وأن الدراسات النظرية في المعهد الدبلوماسي لا تصنع رجالا لوزارة الخارجية.. حوار بدأه ضيفنا من الحارة التي كان كل أفرادها يشكلون أسرة واحدة قائلا:
ولدت في حارة اليمن التي كان كل سكانها أفراد أسرة واحدة في ذلك الوقت وتشربت من ذلك الدفء الاجتماعي والاعتداد بالانتماء لأسرة الحارة الكبيرة حيث النخوة والطمأنينة والعادات والتقاليد المتوارثة، وظللت ملتصقا منذ طفولتي بهموم الأمة فقد كنا نتبرع دائما لقضية فلسطين، ولم أنقطع عن التواصل مع محن العالم الإسلامي عندما انتقلنا من حارة اليمن إلى كيلو 2 في طريق مكة وأنا طالب في مدرسة الفلاح الابتدائية متابعا للفعاليات اليومية التي يقيمها مكتب جبهة التحرير الجزائرية الملاصق لبيتنا. في تلك السن المبكرة بدأت معرفتي بشيء اسمه (عمل دبلوماسي) عندما قرأت لقاء في صحيفة البلاد السعودية مع السفير الشاعر محمد حسن فقي عندما كان في إندونيسيا، فسألت والدي عن عمل السفير، فأحالني إلى عمي الذي كان من أوائل من درسوا في الهند فقال لي: السفير لازم يكون متفوقا في دراسته أولا فحرصت على التفوق في الدراسة وتزامن ذلك مع ظهور ميولي المبكرة نحو الكتابة من خلال مادة التعبير والإنشاء التي أحببتها من حبي لأستاذ المادة كما كنت عضوا فاعلا في النشاط الثقافي في المدرسة الإعدادية وتحرير الصحف الحائطية مع زملي الكاتب الصحافي علي مدهش ويوسف الجار الله رحمه الله الذي كان يخطها بأنامله الجميلة وانتقل الى مطبعة الأصفهاني بعد ذلك ليخط له في الصحف اليومية. لا أدعي عندما أقول إننا كنا جيل الفجر الصادق فلم يكن هناك تلفزيون وملهيات عدا كرة القدم التي لعبتها في نادي الاتحاد ثم الثغر وأخيرا نادي الزمالك لكنها لم تغلب على اهتماماتنا الأدبية بحثا عن كتاب جديد لطه حسين أومحاضرة مكتوبة للعقاد حتى وصلت إلى المرحلة الثانوية التي تواصل فيها تبرعنا للقضية الجزائرية عندما كنا نوفر من مصروفنا اليومي كطلبة في مدرسة الفلاح الثانوية لدعم المجاهدين الجزائريين في معركتهم لدحر المستعمر الفرنسي، بل تسابقت المدارس في ذلك الوقت على التبرع للحصول على الكأس التي كانت تقدم بصفة سنوية لحفز الطلاب على المشاركة. في تلك الأيام حدث انقلاب الزعيم العراقي عبد الكريم قاسم في يوليو من عام 1958م فبدأت أتابع الأحداث السياسية في ظل تصاعد الشحن السياسي في معظم العالم العربي، وازداد التصاقي بالسياسة بعد أن اختارتني أرامكو للابتعاث في الجامعة الأمريكية بفرعيها في القاهرة وبيروت لدراسة العلوم السياسية والإدارية عندما تخرجت في عام 1963م من الثانوية العامة (أدبي) حيث بلغ عدد الناجحين على مستوى المملكة حوالي 365 طالبا فقط.
لم تدم فرحتي طويلا بالابتعاث فسرعان ماتصاعدت حدة التوتر في العلاقات السياسية مع نظام عبدالناصر بسبب حرب اليمن فتقرر نقل كل الطلبة السعوديين للدراسة في الجامعة الأمريكية في بيروت، فقررنا أنا وصديقي الدكتور علي يحيى أن نجازف بالبقاء للدراسة في كلية الحقوق في جامعة القاهرة وهناك تعرفت على صديقي الراحل الدكتور محمد حسن الجبر الذي يسبقنا بسنتين. بعد تخرجنا من السنة الأولى تجدد التوتر السياسي مرة أخرى وكنا نظنه قد نام تحت الرماد فتم تحويلنا مرة أخرى للدراسة في جامعة بنغازي الليبية حيث عشنا حياة بدائية في بلد لم يمض على اكتشافه للبترول إلا ثلاث سنوات فواجهنا أزمة إسكان لوجود عدد كبير من العاملين الأجانب وعدم وجود مساكن للعزاب في مدينة بنغازي المحافظة جدا والتي اعتبرها في ذلك الوقت (قرية كبرت)، فأقمنا في مكان يطلق عليه فندق (مجازا) لمدة أربعة أشهر بإيجار جنيه ونصف شهريا في الوقت الذي كان فيه مصروفنا الشهري 45 جنيها استرلينيا وهو مايعادل الجنيه الليبي في ذلك الوقت، غير أن الشيخ عبد الوهاب عبدالواسع وكيل وزارة المعارف آنذاك رحمه الله شعر بحجم معاناتنا بعد اجتماعه بنا في بنغازي فقرر رفع المكافآة إلى 86 جنيها لكل طالب، لكن معاناتنا لم تنته فتقرر ذهابنا إلى تونس وكانت الدراسة بها باللغة الفرنسية وقد حدث ماتخوفنا منه فالطلبة الذين درسوا هناك أكملوا سنة ضائعة ثم تم نقلهم إلى أمريكا وتم ضم بعض الطلبة الذين كانوا يدرسون في بلجيكا وفرنسا وسويسرا ولم تكن البعثات منتظمة بالصورة الحالية لكنني أقر بالفضل لصديقي محمد حسن الجبر رحمه الله والذي رأى عدم المخاطرة بمستقبلنا والعودة إلى القاهرة لوجود شقة لنا هناك وإكمال دراستنا في جامعة القاهرة فكنا الطالبين السعوديين الوحيدين في الكلية خلال فترة من الفترات الأمر الذي زادنا التحاما ثم تخرج أخي الجبر وكان ترتيبه الرابع على دفعته. وعاد قبلي إلى المملكة معيدا في كلية التجارة في جامعة الملك سعود. ومنها كانت بعثته للدراسات العليا إلى فرنسا .. وتخرجت بدوري وعينت في جامعة الملك عبد العزيز الأهلية في جدة فكانت فرصة كبيرة وأخذ يحضني على الإسراع بإرسال أوراقي له للحصول على القبول. غير أني ونتيجة ظروف خاصة تركت عملي في الجامعة والتحقت بوزارة الخارجية .. ونقضت بذلك شعارا كنا وضعناه سويا: (لولا الدكتوراة لما كانت لنا حاجة لليسانس).
• قيل إنك كنت ناصريا وتأثرت كثيرا بفورة القومية التي كانت سائدة في تلك الفترة؟
من الطبيعي أن مصر مطلع النصف الثاني من القرن العشرين قد جعلتها أحداث المنطقة خاصة ما يتعلق بالقضية الفلسطينية وتبنيها لحركة التحرر العربي وقد كان جمال عبدالناصر متبنيا تلك القضايا التي تلامس تطلعات الإنسان العربي على امتداد مساحة الأمة مما عرض مصر للعدوان الثلاثي عام 1956م فخرج عبدالناصر من تلك المعركة محاطا بتعاطف الجماهير العربية لا بل والكثير من الزعامات العربية التي تأثرت بالمبادئ التي رفعها في مواجهة أطماع السيطرة الأجنبية. وتبقى المحصلة النهائية لأي زعيم في بلد ما بما يتركه بعد رحيله من إرث وبصمات حقيقية يتم من خلالها تقييمه من قبل الأجيال اللاحقة.
• لاشك أنك كنت محظوظا بالعمل في وزارة الخارجية السعودية التي كان يرأسها الملك فيصل رحمه الله.
دون شك بل وتزامنت أول تجربة دبلوماسية بالنسبة لي مع صعود اسم المملكة كقوة سياسية واقتصادية بعد قرار حظر البترول في حرب أكتوبر 1973م، ولا أنسى سنواتي الأربع الأولى التي قضيتها في الوزارة متعلما الجديد في كل يوم من مدارس الرجال داخل وزارة الخارجية بدءا من الملك فيصل رحمه الله الذي كان يعطي الوزارة ثلاث ساعات من وقته اليومي وتأتينا المعاملات مشروحة بخط يد جلالته بالقلم الرصاص يوميا. وقد حظيت بفرصة العمل في الشعبة السياسية في وزارة الخارجية فكنت قريبا من أهم رجال العمل السياسي الذين عرفتهم الوزارة، وأخص بالذكر الشيخ عبد الرحمن منصوري رحمه الله المدرسة والشخصية الموهوبة والخلاقة وصاحب الفكر السياسي المتفوق والذي كان يحيط نفسه بنخبة متميزة من أصحاب الحس السياسي والوطني المتميز أمثال السفير عباس فائق غزاوي ومأمون قباني والسفير رشاد نويلاتي والسفير إسماعيل الشورى والسفير الشاعر محمد صالح باخطمة وغيرهم من العاملين النجباء المخلصين، ولم يكن العمل في تلك البيئة السليمة مجرد مسؤولية بل كان متعة حقيقية، وفي الفترة الانتقالية التي جاء فيها الأمير سعود الفيصل عام 1975م كان يوجد الشيخ عبد الله رضا وكيل الوزارة للشؤون الثقافية والاقتصادية، ومن سفراء الخارج محمد علي رضا في مصر وفؤاد ناظر وجميل الحجيلان وهؤلاء كلهم عندهم الموهبة والملكة إلى جانب الإخلاص والصدق في العمل.
• ولكن هناك من يرى بأن وزارة الخارجية ليست المكان المناسب لكل من تخرج من أقسام العلوم السياسية؟
يفترض أن الخارجية لاتقبل إلا ثلاثة تخصصات في العمل الدبلوماسي بدءا من العلوم السياسية ومرورا بالحقوق وانتهاء بالعلاقات الدولية، لكن الأمور تغيرت الآن فأصبح لدينا التاريخ السياسي والجغرافيا السياسية، وهناك علم الاستراتيجية وهو العلم الذي تمنيت أن أدرسه لعدم وجوده في جامعاتنا، وفي تصوري أن مجرد الالتحاق بالمعهد الدبلوماسي لمدة سنتين ليس مبررا لمنح مرتبتين للموظف الذي يتخرج ليصبح في الصف الثاني بالوزارة وهو فاقد الخبرة، وأدعو إلى الاستفادة من خبرة الدبلوماسيين المتقاعدين للتدريس في المعهد بدلا من التدريس النظري البعيد عن الممارسة الفعلية.
• كأنك تقول إن سن الستين ليس مناسبا لتقاعد الدبلوماسيين؟
لا أراه مناسبا، فهناك دبلوماسيون مازالوا يعملون وهم فوق الثمانين كما أن البلدان الغربية عندما يتقاعد لديها الدبلوماسي تطلب منه أن يدون تجربته ليستفاد منها، وهذا ما عملته بشكل شخصي فقد دونت تجربتي الدبلوماسية وقيل لي أطبعها في الخارج لكنني رفضت ومازلت مصرا على إجازتها وطباعتها في الداخل.
• أهم ما تعلمته في العمل الدبلوماسي؟
أن نفكر بعقولنا أكثر من عاطفتنا في التعاطي مع العمل الدبلوماسي لأنه مطلوب أكثر في أوقات التوترات ودوره حاسما في الدفاع عن مصالح البلاد في بعض المواقف. كما تعلمت اللغة الدبلوماسية التي لا تدرس كمادة وإنما تأخذها من الرجال وتتعلمها في المواقف وأهم مافيها كيف تقول وليس ماذا تقول؟ فالكيفية هي الأهم وهذه تتعلمها بالاستعداد والمثابرة.
• وأسوأ ما اكتشفته كرئيس بعثة دبلوماسية ووزير مفوض؟
أنا أتكلم عن الدبلوماسية دون تخصيص لبلد بعينه وإنما عن الدبلوماسية العربية بشكل عام من خلال تجربتي المتواضعة على مدى 36 سنة كمراقب ومتابع؛ فحضور الدبلوماسيين العرب في الخارج حضور متواضع جدا إن لم يكن منعدما، والسبب من واقع ما رأيته خلال تجربتي لمنطقتنا التي تواجه تحديات شرسة متعددة المصادر لعل أخطرها التحدي الصهيوني الذي كان في الأغلب وراء مصائب الأمة، فنحن لسنا بحاجة إلى دبلوماسي تؤمن له وزارته الصحافة اليومية فلا يقرأ إلا الصفحات الرياضية فيها وهو لا يعرف الحدود الجغرافية لبلده، أو سفيرا لا يحفظ النشيد الوطني لبلده، وهنا يأتي الحديث عن حسن الاختيار وإعطاء الفرصة بشكل أكبر لمن يتميز لتستفيد منه البلد لا أن تلتف حوله الأحاييل والغيرة والحسد.
• كأنك تبعث رسالة دبلوماسية لشخص ما؟
لا أقول إلا أنني خرجت مرفوع الرأس بعد ستة وثلاثين عاما من العمل الدؤوب والمخلص لكل ما فعلت وراض كل الرضا عما قدمت، وسأظل أحتفظ بالذكريات الجميلة للناس الطيبين.
• كيف يمكن للدبلوماسي أن يوفق بين المبادأة والمبادرة في عمله وبين ضوابط الأداء التنفيذي الملزم وفقا للتوجيهات؟
الدبلوماسية والعمل السياسي عمل متطور وهنا يحضرني ما رواه الدكتور علي الدين هلال حينما كان طالبا في كلية الاقتصاد والعلوم السياسية في جامعة القاهرة فذهب إلى مكتب (الدكاترة) حامد ربيع عميد الكلية كما يطلق عليه لحصوله على سبع شهادات دكتوراه، فسأله سؤالا وحفظ إجابته وبعد أيام وأثناء المحاضرة طرح الدكاترة حامد ربيع نفس السؤال فلم يجب أحد من الطلاب فرفع علي يده بفرح فأعاد نفس الإجابة التي سمعها من عميد الكلية إلا أنه فوجئ به ينهره ويسأله: من أين أتيت بهذا الكلام، ألا تعلم أن علم السياسة يتطور كل نصف ساعة. فقال الدكتور علي الدين هلال لنفسه: علم إيه هذا الذي يتغير كل نصف ساعة، ودعني لا أقول كل نصف ساعة، ولكن كل أسبوع أو كل شهر أو كل عام، فهو علم يحتاج إلى متابعة، وأعتقد أن العمل الدبلوماسي يتطلب مبادرات لإقامة علاقات دبلوماسية عامة بالتواجد في الجامعات والجمعيات والمساجد والأماكن العامة أو ما يسمونها القوة الناعمة التي تطبقها السفارات الإسرائيلية في مختلف البلدان، فهناك مواقف على الدبلوماسي أن لا ينتظر وصول تعليمات فيها لكنه ومن خلال مدى إدراكه لمتطلباتها يمارسها بشكل تلقائي في إطار السياسة العامة لبلده التي يفترض استيعابه لها، علما بأن الدول المستنيرة لا تبتعث موظفا دبلوماسيا إلى بلد يجهل عقلية المجتمع الذي يتعامل معه.
• ماهي أصعب اللحظات في سنوات تجربتك الدبلوماسية؟
حينما توفي الملك فيصل رحمه الله فقد شعرت بالصدمة لغيابه لما كان يتمتع به جلالته من كاريزما نادرة وكونه قائد انفتاح المملكة الذي رسخ مكانتها العالمية المتفردة وما اجتمعت فيه من صفات الزعامة.
• كنت مسؤولا في الشؤون الآسيوية في الشعبة السياسية في الوزارة، فكيف تقيم العلاقات السعودية الإيرانية حاليا؟
قد أكون مصيبا أو مخطئا في اجتهادي في الرد على سؤالك لكن الواضح لأي مراقب أن علاقات البلدين ليست في أفضل حالاتها وقد شهدت العلاقة توترات كثيرة منذ قيام الثورة الخمينية عام 1979م، وقد بذلت المملكة الكثير من المحاولات لرأب الصدع وتصحيح مسار تلك العلاقات على أساس من الاحترام المتبادل وروح الأخوة الإسلامية غير أن أي علاقة صحية بين بلدين لن تتحقق من طرف واحد.
• بمعنى أن على إيران أن تبرهن على حسن نواياها لجيرانها؟
إيران حقيقة جغرافية وتاريخية يستحيل تجاهلها مثلما هو الحال استحالة إنكار أن على المملكة مسؤولية حماية مصالحها الوطنية والإقليمية والاستراتيجية التي لا يمكن اختزالها والقفز عليها في ظل سياسات إيرانية خاطئة خلقت قلقا مشروعا لدى كافة دول المنطقة الأمر الذي يتطلب من إيران إثبات مصداقيتها في علاقاتها مع جيرانها من خلال إجراءات عملية ملموسة تطمئنهم على أرض الواقع بصدق النوايا حفاظا على استقرار المنطقة وعلاقات حسن الجوار.
• في نفس السياق لابد أنك اطلعت على الملف الأفغاني خلال فترة احتلال الاتحاد السوفييتي لأفغانستان، فكيف رأيت الواقع آنذاك، ولماذا فقد المجاهدون ثمرة جهادهم في رأيك؟
لست من يفتي في شرعية الجهاد وضوابطه، لكن الأمر كان مفهوما ومبررا خلال الاحتلال السوفييتي لأفغانستان حين توجه الكثير من الشباب المسلم للقتال والجهاد بجانب أشقائهم ضد عدو واضح ومشترك. لكن بعد انتهاء تلك الحقبة نشب الاقتتال بين مختلف الفصائل فخرج الوضع عن سياقه وتم استغلال بعض أولئك الفتية لتنفيذ مآرب أخرى مشبوهة وبرزت انحرافات فكرية خطيرة أفرزت إرهابا جامحا طال الدول والأوطان التي وفد منها أولئك الفتية بل أصبح إرهابا كونيا إن جاز لي التعبير مما أساء للدين وللأوطان.
• مثلت المملكة عدة سنوات في اللجنة الآسيوية والإفريقية للاستشارات القانونية، فما هو الدور الذي قمت به؟
هذه اللجنة من الأهمية بمكان فهي منبثقة عن مجموعة دول عدم الانحياز وكانت المملكة عضوا منتسبا فيها، وخلال الفترة التي مثلت المملكة فيها أصبحت تتمتع بالعضوية الكاملة وتختص هذه اللجنة بمناقشة كل القضايا التي تخص الدول الأعضاء مثل موضوع الكفاح المسلح كحق من حقوق المجتمعات التي تتعرض للاعتداء من مجتمعات أخرى فيناقش من كل جوانبه في هذه اللجنة وإذا كان هناك قرار سيتم التقدم به من قبل المجموعة العربية مثلا فيكون الموضوع متكاملا ويحظى بتأييد هذه الدول من آسيا وإفريقيا ثم يرفع للأمم المتحدة والاجتماعات التي حضرتها كانت تحظى دائما بحضور وزراء العدل ووكلاء وزارات وسفراء ورؤساء محاكم عليا وخبراء من كافة الدول بل الأكثر من ذلك ولأهمية هذه اللجنة فقد كان عدد أعضائها 46 دولة فيما بلغ عدد الدول المراقبة 50 دولة بما فيها جميع الدول الكبرى ففي هذه اللجنة تطبخ الكثير من القرارات وكانت مدرسة للتعلم أيضا.
• ما الذي دفعك لكتابة (جدة حكاية مدينة)؟
وجدت أن جدة مهملة في الكتابة التاريخية العميقة ولم ترد في كتب الرحالة والمستشرقين كما وردت مكة المكرمة والمدينة المنورة إلا بذكرها كنقطة مرور وفي سياق الموضوع فيقال مثلا: إن الإسكندر الأكبر زار مكة المكرمة وتوجه من جدة إلى المغرب ولا شيء خلاف ذلك، وأعتقد أن هناك ثراء تاريخيا وثقافيا واجتماعيا في جدة عشناه وعاصرناه ولم يسجل وإذا لم يسجله جيلنا فسيفقد وأعتقد أن الكتاب قد حقق الهدف الذي كتب من أجله حيث أصبح واحدا من أهم المراجع عن مدينة جدة.
• اعتمدت على النقول أم المشاهدات؟
المصادر موجودة في الكتاب وهناك أشياء معروفة بالتواتر وهناك ما أخذته من والدي ولو عاش إلى الآن لكان عمره 120 سنة وهو قد أخذ من جدي وهناك ما سمعته من الكبار ثم لجأت إلى بعض ما يوجد من كتب قليلة عن جدة وكتبته في سبعة أشهر لكنني جمعت مواده على مدى سنوات وكنت مهتما بجمع ما يتوفر بين يدي من معلومات أثناء عملي الدبلوماسي وعندما استقررت في جدة بدأت في استكمالها وإصدارها في كتاب.
• لكن هناك اعتراضات على ما ورد في الكتاب من أولويات؟
أنا طالب علم أولا وأخيرا وكلامي ليس منزلا ويسعدني من يعترض لإثراء الحقيقة حول كل ما كتب مما اجتهدت في بحثه وتحقيقه، فجدة تخص الجميع ولعل من أهم ما كتب تلك المقالات السبعة التي كتبها الأخ عبد الوهاب أبوزنادة وأنا أحترم وجهة نظره الأمر الذي دعاني للرد عليه وتصحيح ما قاله، فأنا لم أجامل أحدا في الكتاب ومارست من خلاله التاريخ وليس السياسة، وكمثال فإن أول منجرة دخلت المملكة كما عرفها لي الأخ كامل دخيل وهو صديق بأن منجرتهم أول منجرة في جدة، ولكنني عندما سألت العم النجار أحمد أبو شوشة في حارة البحر وكان في التسعينات من عمره رحمه الله فقال لي: منجرة دخيل من أقدم المناجر ولكن منجرة أبو زنادة هي الأقدم وكان يعمل فيها فلان وفلان ، ثم سألت العم محمد علي مقلد وهو رجل في الثمانين من عمره وكان نجار موبيليا قبل ستين سنة فقال لي: منجرة أبو زنادة أول منجرة في جدة .. إذن لم أضع في الكتاب أي كلام وإنما تحققا من الشهود.
حالة أخرى وكان يمكن أن أجامل فيها صديق عمري عبدالرحمن عمر نصيف الذي أبلغني بأنه يعتقد أن المدرسة النصيفية للبنات التي أسستها والدته الفاضلة صديقة شرف الدين رحمها الله ربما تكون الأولى أو الثانية التي عرفتها جدة والمملكة عموما، ولم أكتب أنها النصيفية لأن المعلومة الأصح تقول: إن المدرسة الفلاحية للبنات كانت المدرسة الأولى في جدة.
• هل من معلومة جديدة لم يسبق التطرق لها في الكتاب من قبل؟
أعتقد أن منطقة (القبوة) مثلا في قلب المنطقة التجارية في جدة القديمة والتي كانت تضم زقاق الصاغة وفي نفس الموقع يتداخل سوق الحراج القديم فيما كان يوجد في نهايته من الجهة الشمالية (شارع الشباب). هذا الشارع كان من اللافت وجود إحدى عشر حرفة فيه إضافة للصاغة وهي: السحاحري والقطان والنحاس والنجار والخراط والسمكري والحداد والخياط والحلاق والقزاز ومتعهد الإضاءة (الأتاريك) لذلك يقال بين الأهالي إن (دبش العروسة) أثاث بيت الزوجية كان يخرج كله من هذه السوق، وفي هذا دلالة على ما وصل إليه المجتمع من تنظيم آنذاك. من جهة ثانية فقد علمت من الشيخ فيضي الحاشدي شيخ الصاغة الحالي وهو من الثقاة المهتمين بتاريخ المنطقة وعمل مع عمه في الصنعة منذ طفولته بذات الموقع، أن ما كان متواترا بين كبار السن الذين عهدهم في صباه أن موقع القبوة كان سوقا لبيع اللحوم والخضراوات قبل إنشاء (النورية) عام 1283ه من عهد قائمقام جدة العثماني نوري أفندي الذي اشتق اسم السوق من اسمه وقد أزيلت ضمن مجموعة من المواقع الأثرية باشتقاق شارع الذهب حاليا.
• ما مدى صحة وجود كنيسة في جدة سابقا؟
لم تقم كنيسة قط في جدة فما كان موجودا هو مقبرة المسيحيين التي كان موتاها في السابق يدفنون في جزيرة خارج جدة وعندما بدأ التمثيل الدبلوماسي قبل أكثر من مائتي سنة بدأت السفارات الأجنبية تطلب أن يكون لهم مقبرة لعدم وجود خطوط طيران في تلك الفترة فكان الدفن يتم في جنوب جدة خارج سور المدينة والموقع موجود إلى اليوم وتشرف عليه السفارة الأثيوبية وغيرها من السفارات الأجنبية التي لها رعايا يدينون بالمسيحية، والموقع معروف بالقرب من السوق المجاورة لمحكمة البلد.
• هل هناك ما حجب رقابيا من الكتاب؟
نعم شطب منه بعض ما كان موجودا من ظواهر اجتماعية شاذة في المجتمع من الأجانب إبان الحكم العثماني.
• ألا يؤلمك بالمقابل ماتراه من جناية على جدة التي أصبحت تغرق اليوم في شبر ماء؟
أنا حزين على (درة المدائن) فهي لا تستحق ما تعانيه وأبكتني المشاهد التي رأيتها يوم أمس الأول الأربعاء فلأول مرة أراها تغرق فعلا ونسأل السلامة مما هو آت، ولكنني في الوقت نفسه لا ألقي بالتهمة على الأمانة أوغيرها، وإنما أدعوا المخلصين لإنقاذها فالمنطقة التاريخية في البلد مثلا تحتاج إلى الاستعانة بخبرات دول لديها آثار إسلامية مثل مصر مثلا، لا أن تكون المسؤولية مناطة بشخص لديه تخصص معماري وليس في يده إمكانيات وكل يوم نسمع عن سقوط واحد من بيوتاتها القديمة سواء بفعل فاعل أو خلافه كما قال الأخ غسان السليمان فالعملية أكبر منه، وأتمنى أن تحظى المنطقة التاريخية في جدة بما حظيت به بقية المدن التاريخية في المملكة فالمعادلة تتطلب عاملين: مادي وبشري ولا يمكن النهوض بأحدهما دون الآخر، وباختصار شديد فإن المنطقة التاريخية ستنقرض خلال العشرين عاما المقبلة إذا استمرالوضع على ما هو عليه. أما موضوع البنية التحتية فيفترض أننا تجاوزناه منذ عشرات السنين. ومن المؤسف أنني لو ذهبت اليوم إلى أفقر عشرين دولة في العالم مثل مالي والحبشة والتي تهطل فيها الأمطار من 4 إلى 5 أشهر طوال السنة دون انقطاع لوجدت أن أمورها تسير بانسيابية فلا تتعطل فيها مدارس ولا تحدث اختناقات في الطرق في حين أننا نعاني الأمرين عند سقوط كمية محدودة من الأمطار.
• لماذا اعترضت بشدة على فوز الروائي عبده خال بجائزة البوكر؟
دفاعا عن القيم التي تربينا عليها ونربي عليها أبناءنا فقد صدمتني الرواية عندما قرأتها لأول مرة ولم أكمل ثلاثين ورقة منها ورميتها جانبا، لكنني وجدت أنها مكتوبة لنا كقراء فقررت إكمالها، وقد أعدت قراءتها عدة مرات فوجدت فيها ما يستدعيني للكتابة عنها بدءا من جائزة البوكر التي خرجت من رحم معهد وينفيلد للدراسات والحوار الاستراتيجي ومؤسسه كان رئيسا لجامعة بن غوريون في تل أبيب ومستشارا لرئيس الوزراء الإسرائيلي الأسبق أيهود أولمرت، أما من اخترع النسخة العربية من البوكر فهي الصهيونية المعروفة ساشاها فليك وهذا ما أشار إليه رئيس اتحاد الكتاب العرب حسين جمعة، علما بأن هذه الجائزة تترجم إلى تسع لغات ويمكن أن تخرج سينمائيا فتعكس صورة المجتمع الذي كتبت عنه الرواية وهو مجتمع جدة والذي استخدم عبده خال في وصفه أقذع الألفاظ. فالرواية في مجملها تركز بطريقة تلقائية على إعلاء القيم المادية على حساب القيم الروحية والأخلاقية واختصار كل ما هو طاهر نقي بعبارات فجة ساقطة تحت شعار حرية التعبير والإبداع الفكري، بل تم تصوير السواد الأعظم من أهل الحاجة والفقر في جدة بأنهم أهل انحلال وفساد وتم تسفيه المبادئ والقيم والتراث والمعتقدات تحت مسمى حرية التعبير والإبداع.
• لماذا لم تتواصل مع عبده خال بشكل شخصي بدلا من تبني الهجوم عليه؟
المسألة ليست شخصية وإنما أكبر من ذلك بكثير.
• عدت إلى المحاماة كمهنة بعد هذه العمر الطويل في العمل الدبلوماسي، فكيف وجدت الواقع؟
بصراحة لمست حماسا كبيرا من وزارة العدل لتطوير الأنظمة وقواعد تسهيل إجراءات التقاضي وعصرنتها وهذا أمر تحمد عليه الوزارة إلا أن الجانب العملي والتطبيقي هو المحك ويمكن الحكم من خلاله على ملامسة الحقيقة بعد تطويره بهدف كفالة حق التقاضي للمواطن والمقيم بصورة كريمة توفر له العدالة الاجتماعية .
• ما الذي تقصده تحديدا بعيدا عن الإجابات الدبلوماسية؟
بمنتهى الصدق محاكمنا تزخر بقضاة يتمتعون بقدر كبير من الحصافة وسعة الصدر وتوخي العدل لكن توجد قلة تحتاج إلى إعادة نظر في تعاطيها مع القضايا وأطرافها، فهناك بعض القضاة يتظاهرون بالسلطة وبمالهم من صلاحيات على الحكم مما قد يدفعهم للتعبير عن مقامهم وبعصبية غير مبررة ومبنية على نظرة مسبقة وتعميمية على المحامين مما يخل بقواعد العدالة. والبشر ليسوا منزهين عن الخطأ في تعاملاتهم وأحكامهم وإلا لما كانت هناك حاجة لتعدد درجات القضاء والتقاضي لتصحيح ما قد يشوب بعض الأحكام من شوائب، كما أن هناك الكثير من التعطيل الذي يتسبب فيه موظفو الإدارة خاصة في مكاتب أصحاب الفضيلة القضاة لأن صدور معاملة من المكتب قد يستغرق أحيانا عدة شهور، كما أن ضعف التنظيم للبحث عن معاملة قد يستغرق أسابيع وأنا أعتقد أن تحسين أوضاع موظفي الإدارة في المحاكم أسوة بالقضاة أمر مطلوب حماية لهم من الحاجة.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.