لم يكن الجسد الذي أشعل فتيل (ثورة الياسمين) بتونس هو الجسد الأول. ففي كل زمن تمثل النار أداة تغيير وتصحيح، حتى الطبيعة استخدمتها في البدايات الأولى لإحداث أكبر انتقالة بشرية فيما يعرف باكتشاف النار، ولخشية الإنسان منها أقامها كمعبود من دون الله، وبقيت حاضرة حتى بعد نزول الديانات السماوية، حيث تسللت إلى وقتنا الحاضر كطقس ديني يتطهر به الفرد من معاصيه (كما يحدث في الهند من حرق رفات المتوفى)، وهي الصورة المقلوبة لما سوف يجده العصاة في اليوم الآخر. والنار حاضرة في كل عصر. ومنذ أسطورة بروميثيوس في سرقة النار، إلى النمرود في حرق إبراهيم عليه السلام، مرورا بحرق أصحاب الأخدود، وإحراق روما (في العهد الإغريقي)، إلى العهد الحديث حين أحرق هتلر العالم، وانتهاء بالأمريكان وحريق بغداد. وكل الحرائق الكبيرة يكون لها دخان كثيف ينبه التاريخ والناس لتدوينه والتوقف عنده، بينما حرائق المسحوقين تمر على جسد المحروق من غير ذكر. وما المثل الشهير (لا تلعب بالنار) إلا توصية خرجت كي تمنع الباحثين عن الثورات من مواصلة التأليب، لأن الثائر سيجد النار في نهاية المطاف، سواء بالتعذيب الدنيوي أو الأخروي، كونه خرج على الجماعة.. وبقيت لفظة (لا تلعب بالنار) حاضرة كتهديد صريح للفرد. إلا أن ثورة الياسمين ستدخل الفرد كصانع تاريخ حديث (بواسطة النار) يتناسب مع شعار الفردنة الرأسمالية الطاغي في هذا العصر. أي أن استخدام النار لم يعد مقتصرا على تعذيب القوي للضعيف، بل تحول حرق الفرد لنفسه تأليب المجاميع، وبعد نجاح ثورة الياسمين وتناقل وسائل الإعلام للشرارة التي أدت إلى إحداث التغيير في تونس، قلد البعض هذه الحرائق في الأجساد العربية، وخرجت مصاحبة لها عشرات النكت، مبررة عدم نجاح حرق الفرد لنفسه في إحداث تغيير في بلد المحروق. ففي البلد الأول قيل إن البنزين الذي استخدمه المحروق كان مغشوشا، وفي البلد الثاني قيل إن المحروق انطفأ عود الثقاب عشر مرات قبل أن يصل إلى جسده (من شدة بطء الناوي على الحرق)، وفي بلد ثالث قيل إن المحروق اتصل بالكونجرس الأمريكي ولم يحض بالأغلبية، وفي بلد آخر قام فيه المحروق بحرق مكفوله، وفي بلد آخر انتظر المحروق بيانا يجيز حرق النفس، وفي بلد آخر وجد المحروق منوما في قسم العظام لأن المسعفين له طفوه بألواح من خشب فتكسرت عظامه.. نكات كثيرة انطلقت من أفواه المتندرين بمن أقدم على حرق نفسه رغبة في التغيير، وهي نكات ساخرة على أية حال. لكن الملاحظ أن كل الحرائق التي نشبت هي تدل على ثقافة التقليد، بمعنى تغييب ظرفية المكان بكل شروطها، والاكتفاء بالفعل ذاته، وهو ما لا يمكن له أن يحقق نتائجه التي أحدثها في موقعه المشروط. [email protected] للتواصل أرسل رسالة نصية sms إلى 88548 الاتصالات أو636250 موبايلي أو 737701 زين تبدأ بالرمز 159 مسافة ثم الرسالة