قبل 15عاما كنا نعيش في حالة من الفوضى والعتمة والهلع، لم يخبرنا أحد بذلك، قد كنا شهود العيان والأبطال والضحايا، كنا صبية نقود السيارات بلا اكتراث، دقائق نسرقها خلسة، نبحث فيها عن الانتصارات في أروقة الشوارع وقد حولنا المدينة إلى حلبة مصارعة وجعلنا من كل خط نقطة انطلاق في سباق دموي لا ينتهي. في كل أسبوع كان هناك ضحية! في كل أسبوع كنا نشيع زميلا، وفي كل أسبوع نواسي صديقا في غياب رفيق أو أخ.. وفي كل فصل كان هناك مقعد يصبح خاليا بعد أن رحل صاحبه عنا، وبعد أن كبرنا قليلا أدركنا أن قصة الحياة والموت قصة مكررة روتينية لا خوف منها، لكن المريع هو أن تعيش شبابك بعاهة وأن تحكم على حياتك بالعجز وتكتب النهاية بيديك، في حين أن المقابل لم يكن نصرا أو حربا مقدسة أو معركة شريفة، بل كانت سيارة ومغامرة! المحزن حقا كان حرقة أم لم تودع غير أحدنا في رصيد العمر، وأبا كهلا أفنى عمره في تربية السند والعضد، لينكسر ظهره فجأة وتتبدد أحلامه في لحظة وهو يواري أشلاء فلذة الكبد! لازالت الأماكن تشهد، ولازالت القصص تروى بعد مرور السنين، وهل يقدر الزمن أن يحيل الحزن إلى ماض؟ هو فقط يلقي بالتراب، يحاول أن يواري الذكريات بعيدا، يحاول جاهدا أن يخفي ملامح الأمس، إلا أن الغصة تبقى طيلة العمر ولن تتحلل وتتلاشى. سئمنا مذاق الدم ومشاهد الاستهتار، ولقطات التحدي الكاذبة لشباب لا يعرف من إثبات الذات إلا سيارة تمثل طموحه وأحلامه وجل أمنياته، فلماذا إذا بعد كل ذلك الماضي المزعج لازالت هناك أصوات تتعالى معترضة على النظام والقانون والغرامات وتهذيب السلوك، تلعن ساهر وتبصق عليه والحجة واحدة دائما.. أموالنا، غراماتنا التي لا نعرف مصيرها ولا فيما ستنفق ولمن سيكون مستقرها! لا نملك إحصائيات دقيقة على غرار إعلانات مبيضات الغسيل المعروفة (ما قبل استخدام ساهر وما بعده)، لكن في كل الأحوال فليحيا ساهر وإن ذهب ماله إلى جزر الهونولولو أو إلى بنوك سويسرا أو حتى إن تحول إلى مشروع استثماري يضاهي أكبر مشاريعنا المتعثرة فسادا وسقوطا. لا يهمنا سوى أن النظام ساد أخيرا، وأصبحت العيون تراقب في حذر وتفتش خلف كل عمود في حرص خوفا من مخالفة تذبح.. اليوم أصبحنا أكثر وعيا وأكثر رأفة بحياتنا وحياة من حولنا. قبل أن تبكوا ساهر وتلعنوه، قبل أن تحاربوه، ألعنوا جهلنا، وأثروا فكر شباب لا يعرف من الدنيا سوى التجول في الطرقات باحثا عن ذاته في حلبة موت قاسية، قبل أن تتمنوا زوال ساهر العتيد، ساهموا في بناء أجيال مقبلة أكثر وعيا وثقة في ذواتها تؤمن أن حياتها أثمن من أن تضيع خلف مقود سيارة طائشة. عل العقول إذا ما نضجت واحتل الطموح قلوبا جميلة نضرة، وأصبح للحياة قيمة وهدف، تحولت السيارات المجنونة ذات فجر مشرق إلى عربات أحلام تصعد الجبال وتدك الأرض دكا بلا هوادة ولا رحمة. حينها فقط لن نبحث عن لاقطات سرعة تراقب الخطوات النفاثة أو المنعطفات الخطيرة، بل سنصفق كثيرا ونحثهم على الانطلاق والوثب والطيران إلى أبعد مدى بلا أشلاء ودماء، وأمهات ثكلى وآباء يغالبون الدموع وقهر الرجال.. اوقفوا ساهر فقط بعد أن تبددوا الظلام.