أشرت في مقالي السابق في هذا الموضوع الذي نشر في العدد ( 3471 ) بتاريخ 18/ 12/ 2010م من أن هناك سؤالا قد يثار حول دور القضاء في ثقافة المسؤولية المهنية، وهذا أمر بديهي في الدول المعاصرة وخاصة تلك التي تسير بخطى ثابتة نحو العالمية، وللإجابة على ذلك أشير هنا بصفة أساسية للقضاء الإداري وأضيف إليهما القضاء التجاري وقضاء العمال، هذه الأنواع هي التي ترتبط بشكل مباشر بثقافة المسؤولية المهنية في القطاعين العام والخاص، وهذا الارتباط يبدو للبعض واضحا من خلال تفحص وتحليل طبيعة الأحكام والقرارات التي تصدرها، وما يتبعها من مراحل استئناف ونقض وتنفيذ وما يصيب هذه المراحل من مشكلات ومعوقات قد تفقد العملية القضائية هيبتها وسلامتها. ولكن هذه الأحكام هي نتاج تراكمات مهنية ومعرفية وتشريعية سابقة، ساهمت وتساهم في إخراجها على هذا النحو، وهي على هذا النحو أيضا تؤثر على الثقافة المهنية إيجابا أو سلبا. والواقع أن ثقافة المسؤولية المهنية في هذا الجانب تبدأ من المحتوى التعليمي للقضاة أولا، على اعتبار أنهم من مخرجات هذه الثقافة لا حقا، فالمكون الشرعي لا يكفي وحده لتخريج قضاة إداريين، بل على طالب القضاء الإداري أن يكون ملما بمحتوى العملية الإدارية ووظائفها الأساسية كيف تكون، وأن يكون على علم كاف وواسع بطبيعة ومفاهيم الآليات الإدارية والقانونية التي تنهجها أجهزة الدولة وطبيعة علاقتها بمكونات المجتمع المهنية التي تشمل: القرارات الإدارية والعقود الإدارية والتحقيق الإداري والتظلمات الإدارية وضمان حقوق الموظفين في الدفاع عن أنفسهم والرقابة الداخلية للمنشآت العامة والمساندة والرقابة القانونية الداخلية للمنشآت العامة، هذا بجانب دور وتأثير الأهداف والمعايير في التأثير إيجابا أو سلبا على التصرفات المهنية تجاه المجتمع أو المتضرر، لأن لها أدوارا مهمة وحساسة جدا كما أفرزتها أحداث جدة والرياض وبعض المناطق الأخرى سابقا على إثراء الثقافة المهنية والتأثير فيها، بل يمكن لي القول إن الإدارة الحكومية ( العامة ) هي وجه آخر من وجوه القانون الإداري، وعلى هذا الأساس يجب أن تدرس في الجامعات السعودية، بل إن الطبيعة المهنية على أرض الواقع تفرض ذلك والاستناد إلى دور الخبراء في المحكمة كمكمل في هذا الشأن لفك الكثير من الغموض الإداري الذي يحتاج إلى خبراء آخرين في العديد من الأحيان، والقول بأن القاضي ما هو إلا مطبق للقانون قول ناقص يحتاج إلى توضيح وتفسير لأسباب كثيرة، من أهمها عدم الفهم الصحيح في الكثير من الأحيان لمحتوى المادة القانونية الواجبة التطبيق وما يرتبط بها من مواد أخرى مكملة أو مفسرة لها، فيقع القاضي هنا في مشكلة الإعمال غير الصحيح للمادة القانونية، وإلى تجاذبات وصراع محامي الخصوم والأساليب التي يستخدمونها لكسب القاضي إلى صف أحدهما والتأثير عليه، وبالتالي لا يصل القاضي لمبتغى مشرع المادة القانونية وما يرمي إليه في العديد من القضايا التي ينظرها، وهذا يقودنا إلى القول أن تكوين القاضي الإداري يجب أن يشمل أربعة جوانب أساسية هي (المعرفة الشرعية للجوانب الإدارية كضوابط عامة، والمعرفة الإدارية للإدارة الحكومية وما يميزها عن الإدارة الخاصة وكيف تطبق، والمعرفة القانونية للأسس والقواعد الأساسية للقانون ، بجانب القانون الإداري والإشكاليات التي يثيرها، لأنه لا يمكن تطبيق القانون دون معرفة الأسس والقواعد التي تكونه، وأخيرا الضمانات القضائية التي يتعامل معها القاضي، وأقصد بها ضمانات القاضي وضمانات تختص بالمتقاضين أيضا، وهي تشمل محامي الخصوم).. وهناك مشكلة أخرى وهي كثرة المواد القانونية التي تنتمي للجسم العام للقضاء الإداري فهي كثيرة ومتفرقة هنا وهناك، وهي بهذا التنوع والتفرق والقدم تشكل في مجموعها ما يسمى بالقانون الإداري الذي يطبق في القضايا الإدارية المتنوعة، وبالتالي لا بد من جمع وتنقيح المكونات الأساسية لهذا القانون من قبل المختصين في جهاز الدولة وفي مجلس الشورى لا لنشر الثقافة المهنية فحسب، وإنما كذلك لمساعدة القضاء الإداري للقيام بواجبه على أكمل وجه، فالقضاء الإداري لا يحكم إلا بما هو تحت يديه من قوانين، ويصدر أحكامه على هذا الأساس، وأي تقصير في الأحكام القضائية مرده في الأساس إلى طبيعة القوانين التي يحتكم إليها القاضي، وآليات القضاء وأساليبه وأحكامه تعد من أهم روافد الثقافة المهنية في وقتنا الحاضر ليس للقضاة فحسب وإنما كذلك للمجتمع المهني نفسه أيضا، وصورة من صور الاطمئنان للمجتمع العام بكل شرائحه، وخطوة من أهم خطوات التقدم للعالمية، لأن مجمل الأعمال والمشاريع التي تنفذها الدولة ترتبط بشكل أو بآخر بالقضاء الإداري، كما أن أداء موظفي الدولة وعلاقتهم بأفراد المجتمع يرتبط بالقضاء الإداري، بل إن المرحلة التي تعيشها الدولة حاليا من خلال الأدوار التي تقوم بها على المستوى الداخلي والإقليمي والدولي تفرض على المختصين إعادة النظر في هذا القانون بما يضمن ضبط أدوار أجهزة الدولة وبرامجها وأنشطتها ومشاريعها تجاه المجتمع وموظفيها من جانب، ومن تتعامل معهم من جانب آخر، فالعالم أصبح قرية الكترونية صغيرة مرتبطة مع بعضها بعضا، ولم يعد هناك شيء خاف على الغير فيما يختص بالدول بفضل تقنية الاتصالات المتجددة دوما، وما يحدث في الشرق يدركه الغرب، وعلى الدول السائرة نحو العالمية أن تجدد نفسها قبل أن تشيخ ويرفضها المجتمع الدولي، أما القضاء التجاري فسوف أخصه بمقال آخر بمشيئة الله تعالى. [email protected]