كان القضاء التجاري طوال السنوات الماضية مشتت الأوصال، متناثر الاختصاصات ما بين دوائر قضائية في ديوان المظالم إلى لجان قضائية أو شبه قضائية تختص كل منها بفرع من فروع القضاء التجاري، فمنذ سنوات طويلة وكل المهتمين بالشأن الحقوقي والاقتصادي في المملكة ينادون بسرعة إصلاح الأنظمة التجارية والقضاء التجاري لمواكبة ما تشهده المملكة من طفرة تنموية، وما من شك في أن دول العالم في ظل الظروف الحالية والأزمات الاقتصادية تتسابق نحو إيجاد المخارج من هذه الأزمة والتهيؤ للانتقال إلى المرحلة المقبلة بأنظمة وتشريعات أكثر مرونة وأقدر على مواجهة الأزمات. وفي هذا السياق تلقي «الحياة» الضوء على القضاء التجاري من خلال أحد المتخصصين في هذا الشأن وله باع طويل بحكم عمله واهتماماته، إضافة إلى قضايا أخرى تهم المتلقي. الحديث كان مع القاضي السابق في ديوان المظالم المحامي محمد بن صالح الجذلاني، الذي عمل في القضاء التجاري قرابة عشر سنوات، وعمل في القضاء الإداري والتأديبي والجزائي فترات متقطعة. وسبق ذلك أن عمل في إدارة الحقوق بوزارة الداخلية قبل التحاقه بالقضاء، وهو الذي أكد أنه «منذ أن صدر نظام القضاء ونحن نتطلع إلى سرعة تطبيقه ليكون واقعاً ملموساً، وينتقل إلى حيّز التنفيذ، بما في ذلك إنشاء المحاكم التجارية المتخصصة، التي يأمل الجميع بأن يكون لها دور فاعل في إصلاح وضع القضاء التجاري في المملكة، إذ تأخر هذا القضاء كثيراً. ولا يخفى أن إصلاح القضاء التجاري لا يمكن أن يتم إلا بإنشاء المحاكم التجارية المتخصصة التي تنضوي تحت مظلتها كل اختصاصات القضاء التجاري المبعثرة حالياً. ومراجعة الأنظمة التجارية وإعادة صياغتها وإصدارها في مدوّنة واحدة تحوي كل ما يتعلّق بالقانون التجاري من أنظمة بدلاً من هذا الشتات القائم حالياً». وأكد الجذلاني في حواره مع «الحياة» أن المتابع لأوضاع المحاكم التجارية في ديوان المظالم، «يجد حالاً من الترقب والانتظار والقلق تسود في نفوس قضاة هذه المحاكم حول ما ستؤول إليه حالهم عند انسلاخ هذه المحاكم إلى وزارة العدل، بل أصبح القضاة ينظرون بعين الريبة إلى كل حركة تشكيل أو نقل للدوائر تتضمن نقل قاضٍ تجاري إلى دائرة إدارية أو تفريغه من العمل القضائي، وهذه لها أثرها في استقرار الأحكام وتوجيه الاهتمام والتركيز على العمل القضائي والبحث» ... فإلى تفاصيل الحوار. سبيل إصلاح القضاء التجاري، بأي شيء يمكن أن نبدأ؟ - لا بد من التأكيد على أمور عدة مهمة، أولها: ينبغي أن يتوافر للقاضي التجاري من الوسائل ما يعينه على تجاوز العقبات التي تمنعه من سرعة الفصل في النزاعات على أحسن الوجوه، بما يتفق مع التطبيق الصحيح لأحكام الشريعة الإسلامية، ويواكب مستجدات العصر وتطوّرات التجارة العالمية وأدوات الاستثمار المتنوعة، والإحاطة بما يتعلّق بعمله من أنظمة وتعليمات وما توقّع عليه المملكة من معاهدات. وذلك يمكن أن يتحقق، عبر إيجاد الأقسام الخاصة بالمعلومات ومراكز للبحوث وأخرى للترجمة القانونية المتخصصة مما لا يمكن أن يستغني عنه عمل القاضي التجاري، وأنا على يقين بأن عدم توفير هذه المرافق للقاضي لا بد أن يؤثر سلباً في نوعية الأحكام وأن ينعكس عليها بالضعف والقصور. ولا بد أن توجد كذلك آلية فاعلة تربط بين القاضي التجاري والمتخصصين في المسائل التي يحتاج إليها في عمله، من مستشارين ومتخصصين وباحثين في مجالات المصرفية الإسلامية، وفقه العقود والأوراق المالية والتجارية، والمتخصصين في العقود الاستثمارية الحديثة، والعلامات التجارية، وأحكام الشركات، وغيرها الكثير من المجالات المندرجة تحت مظلة القانون التجاري، مما يصعب على القاضي أن يكون ملماً بها جميعها ومتخصصاً فيها. إذ يكون متاحاً للقاضي إذا ما عرضت له مسألة يحتاج فيها إلى رأي متخصص يتوقف عليه الحكم في الدعوى، أن يستكتب هؤلاء العلماء والباحثين وأن يطلب منهم الرأي والمشورة في ذلك من دون إلزام لهم بهذا الرأي، إلا أنه يكون معيناً على حسن تصور المسألة ومعرفة الحكم الشرعي والقانوني الصحيح لها بعد الوصول إلى تكييفها الصحيح. وماذا عن الشق الثاني في إصلاح القضاء التجاري؟ - من الملاحظات الجديرة بالعناية أيضاً التي لمستها أثناء عملي في القضاء التجاري سنوات عدة، ضعف أو انعدام الرابطة بين القضاء التجاري وأعراف التجار، فكثير من المسائل التي يتصدى لها القاضي يكون مرجع الفصل فيها على الوجه الصحيح إلى أعراف التجار وما عليه عملهم، بينما لم يسبق أن مرّ بي أن كتب قاضٍ تجاري إلى أصحاب الخبرة لسؤالهم عن هذه الأمور، سواء في تفسير العقود أو الشروط فيها، أو في تحديد الالتزامات التي لا ينص عليها العقد ثم تكون محل نزاع بين طرفيه، أو نحو ذلك، وعلى النقيض من هذا المسلك نجد أن التجار في فرنسا هم الذين يتولّون وضع قوانينهم بأنفسهم. ثم تتولى طائفة منهم من ذوي الخبرة الطويلة بعد أن يتركوا العمل التجاري، الفصل في منازعات التجار، وأنا لا أطالب بذلك، وإنما أتمنى إشراك التجار المعروفين الموثوقين في جميع مجالات التجارة، في القضاء التجاري والعناية بأعرافهم التي لها اعتبار في الشريعة الإسلامية بشروطها المعروفة. ألا ترى أن ذلك يؤثر في استقلال القضاء؟ - لا أعتقد ذلك، وخلاصة القول أن الوضع الحالي للقضاء التجاري مقلق، فكل شيء متوقف عند خطوة صدور نظام القضاء، فلم تستقل المحاكم التجارية حتى الآن، ولم نبدأ برنامجاً عملياً دقيقاً شاملاً لتأهيل القضاة في القانون التجاري، ومازالت اللجان القضائية وشبه القضائية تمارس الفصل في أنواع من القانون التجاري بطريقة مشتتة تفتقر إلى أبسط ضمانات التقاضي. وإذا كان من أبرز سمات القضاء التجاري سرعة الفصل في المنازعات التجارية، فإن الحال اليوم على العكس من ذلك، إذ تبقى الدعوى التجارية سنوات طويلة من دون أن تتقدم خطوات، ثم إذا صدر الحكم يبقى في أدراج محاكم الاستئناف «دوائر التدقيق التجاري» أكثر وقت ممكن في قائمة الانتظار لم يبدأ النظر فيه ودرسه. وفي بعض الدوائر تمضي على الدعوى سنة كاملة لم يعقد لها سوى جلسة أو جلستين مع التأخير في تسليم الأحكام بعد صدورها. وأهم من ذلك كله ضعف مخرجات الأحكام، وكثرة ما يعاد منها منقوضاً ليبدأ نظر الدعوى من جديد، وهذه الحال لا شك أن لها تأثيراً سلبياً في صورة البيئة الاستثمارية في المملكة وطرد الاستثمارات الأجنبية التي تسعى الدولة لاستقطابها، كما أن لذلك أثراً سيئاً يحمل بعض الناس على ترك حقوقهم للضياع والتنازل عنها، لعدم قدرتهم على مجاراة هذه الفترات الزمنية الطويلة، أو اللجوء للتحاكم لدى دور التحكيم الدولية، وهو تحاكم إلى غير شرع الله عزّ وجل. وسائل الإثبات الحديثة، كيف ترون إمكان الاستعانة بها من جانب القضاة في المملكة؟ - أعتقد أن ذلك من أهم الأمور التي ينبغي حض القضاة عليها وإلزامهم بها على وجه العموم، وإلا فإن لكل قضية ملابساتها، والقضاة في الغالب بدأوا يأخذون بهذه الوسائل ويعملون بها. كما أن الوسائل الحديثة للإثبات تختلف بحسب طبيعة القضية، فقضايا التعزيرات والحدود في باب العقوبات لها أحكام وملابسات وقواعد تحكمها، أما قضايا الحقوق المالية والنزاعات التجارية فلها أيضاً أحكامها وقواعدها، وعلى وجه العموم فالوسائل الحديثة للإثبات كلها تدخل في باب القرائن، ولا يخفى أن القرائن لها أحكام مقررة في الشريعة، وفي هذا الباب فالمصدر الوحيد للقضاء السعودي هو أحكام الشريعة فقط. ما رأيكم بتقنين الأحكام، هل أنت واثق أنه سيحد من تفاوت الأحكام؟ - التقنين كثر الجدل حوله، وطالب به كثير من المتخصصين في الشريعة والقضاء والأنظمة، وأعتقد أنه من أفضل السبل للوصول إلى رفع مستوى الجودة في الأحكام القضائية وسهولة ضبطها ومنع التضارب بينها، فكثير من الأحكام القضائية تشتمل على التناقض في أحوال متطابقة، فبعض القضاة يحكم بوقوع الطلاق ثلاثاً بلفظ واحد، وبعضهم يحكم بعدم وقوعه، وبعضهم يحكم بسقوط النفقة بمضي المدة وبعضهم يحكم بعدم سقوطها، وفي حضانة الأولاد أيضاً وغيرها الكثير. وهذا لم يعد مقبولاً، وينبغي ضبط هذا الأمر وحسمه من ولي الأمر. هل يتوجه القاضي لأقوال مرجوحة أحياناً، بحكم تجربتك في ممارسة الشأن القضائي ومتابعته؟ - نعم في كثير من القضايا يرى القاضي أن الأصلح فيها هو القول المرجوح، ولكن تنشأ عن ذلك مشكلة في مدى موافقة هذا الرأي للحق والصواب أم لا، فليس في كل الأحوال يكون ذلك صحيحاً، وإذا توسّع القضاة في هذه النظرية فقد تكون وسيلة لعدم الطمأنينة للأحكام القضائية، وفي التقنين في نظري حلٌ لهذه الإشكالية. وماذا عن المحامين ودورهم، فلم يزل الخلاف على أدائهم قائماً؟ - أكدت في أكثر من مناسبة أن المحاماة في السعودية ما تزال تحتاج لكثير من التطوير، وأن مستوى المحامين فيه تفاوت كبير جداً من حيث التأهيل والفهم والخبرة بل والأمانة، ومن أهم الوسائل لرفع مكانة مهنة المحاماة وضبط أداء المحامين المبادرة في قيام هيئة المحامين السعوديين كغيرهم من المهن والتخصصات التي لها هيئات ترجع إليها. ثم إن درجة قبول المحامين وتفهم أهمية دورهم والتعاون معهم وضمان حقوقهم ما تزال ضعيفة جداً سواء لدى القضاة أو غيرهم من الجهات ذات العلاقة، وهذا أمر يجب إعادة النظر فيه، كما ينبغي مراجعة وتعديل نظام المحاماة الحالي، وكل هذه الوسائل سيكون لها أثر طيب في تمكين المحامي من القيام بدوره في تحقيق العدالة.