بما يشبه «الشقلبة» إلى الأمام، يبدو الشارع السوداني هذه الأيام مهتما بما بعد الاستفتاء، متجاوزا كل الشد والجذب الذي كان يدور منذ أشهر عديدة حول الوحدة الجاذبة، ومدى نجاحاتها وإخفاقاتها. تقرير المصير الذي جاء نتاج ولادة متعسرة استمرت شهورا طويلة، وشهد صرخة الحياة في «نيفاشا» قبل خمس سنوات، كان مصدر فرح للكثيرين، مع اختلاف الأجندة لكل طرف. ففي حين رآه الجنوبيون فرصة لتحقيق نماء كبير في جغرافيتهم، مع احتفاظهم بحقهم في نهاية الشوط، بحيث يختارون الوحدة مع شمال السودان أو الانفصال عنه، رآه الكثير من الشماليين، وخصوصا مناصري حزب المؤتمر الوطني الحاكم والمتعاطفين معه، بأنه فرصة لالتقاط الأنفاس، وتحقيق اختراق مهم وسط الجنوبيين خلال خمس سنوات، يمكنهم من خلاله تحقيق أغلبية مريحة في الجنوب تضمن الوحدة. لكن الأمور سارت بأسرع مما يتوقعه الأطراف، على الأقل في الجانب الشمالي. فقبل أن يتم اختراق الجنوب، وتحقيق قناعات موثوقة بالوحدة الجاذبة، جاء موعد الاستفتاء المضروب له التاسع من يناير 2011، في أجواء وضح فيها طغيان الصوت الانفصالي، ورجحان كفة إقامة دولة مستقلة في جنوب السودان، ما لم تحدث معجزات تقلب الطاولة في وجه هذا الاحتمال. الواضح أن «الشقلبة» الأمامية فتحت ملفات مؤلمة، بعضها يتعلق بالحكومة المقبلة التي ستعقب انفصال الجنوب إذا وقع، وبعضها يتعلق بالدستور الذي سيحتكم إليه السودانيون في حال غلبة خيار الانفصال على خيار الوحدة. القيادي في الحركة الشعبية مالك عقار الذي يحتل حاليا منصب الوالي في ولاية النيل الأزرق، استبق ردود الفعل على أحاديث المؤتمر الوطني بالاستفراد بدستور يطبق الشريعة الإسلامية وحدها. ويركز بشكل واسع على عروبة السودان بعد انفصال جنوبه، فنكأ جراح الانفصال مجددا، مشيرا إلى أن جنوب النيل الأزرق، وجنوب كردفان، وهي مناطق تسكنها عرقيات غير عربية، ستطالب هي الأخرى بتقرير المصير إذا سار المؤتمر في اتجاه تحقيق نواياه. لكن تحالف المعارضة الذي يضم حزب الأمة القومي بقيادة الصادق المهدي، حزب المؤتمر الشعبي بقيادة الدكتور حسن الترابي، والحزب الشيوعي السوداني برئاسة محمد إبراهيم نقد، هدد بخطة متقدمة وأكثر تشددا، وهي انتزاع السلطة من المؤتمر الوطني، رغم فوزه بالانتخابات الأخيرة، على اعتبار أن المؤتمر الوطني فشل في تحقيق الوحدة، واستفرد مع الحركة الشعبية بوضع الدستور الحالي الذي لن يعبر عن السودان بعد نزوح تلك الحركة للجنوب، وهو ما يريدون المساومة به لأجل تشكيل حكومة قومية شاملة لتحكم السودان بعد الاستفتاء، وتشرف على صياغة دستور أكثر شمولية للواقع السوداني الجديد. الحزب الحاكم من جانبه، لم يستسلم للهجمة من عناصر الحركة الشعبية غير الجنوبية، أو من تحالف المعارضة السودانية، فالدكتور نافع علي نافع نائب رئيس المؤتمر الوطني، ومساعد رئيس الجمهورية، سخر من كل المعارضين، وقال في خطاب شديد اللهجة أخيرا إنه «ليس هناك حزب سياسي في السودان يستطيع أن يتطاول على الإنقاذ والمؤتمر الوطني، بأنهما لم يفعلا شيئا لأجل الوحدة. فالأحزاب الشمالية هي المسؤولة عن تنامي مشروع الحركة الشعبية، وقاتلت معها في شرق السودان قبل السلام»، مختتما حديثه حول تلويح المعارضة باقتلاع النظام من خلال انتفاضة شعبية بالقول «الانتفاضة الشعبية ضد النظام حلم الجيعان»، في إشارة للمثل القائل بأن «الجائع يحلم برغيف الخبز». المعارضة السودانية تجاهر الآن علنا بفقدان حكومة المؤتمر الوطني شرعيتها بعد انفصال الجنوب، وتستعد للعمل من أجل إقصاء النظام رغم تأكيدهم بأن ذلك سيكون من خلال الوسائل السلمية. لكن النظام يرى أن «نيفاشا» التي أدت للانفصال إذا وقع ليس مسؤولية المؤتمر الوطني وحده، وهو ما صرح به نائب رئيس الجمهورية وأبرز قادة المؤتمر الوطني علي عثمان محمد طه أخيرا بالإفصاح «إن مسألة فصل الجنوب مسألة تراكمية ليست ناشئة جراء الاتفاقية فقط»، وهي إشارة لكل الاتفاقيات السابقة التي كان أبرزها اتفاق نميري جوزيف لاقو في أديس أبابا الذي استمر لأكثر من عقد في السبعينيات الميلادية، واتفاق الميرغني جون قرنق خلال الديمقراطية الثالثة الذي أجهضته المكايدات السياسية وقتذاك.