لم يك الأمر برمته ضربا من التوليف الخيالي، أو تجييره لمساحات السبق الصحافي غير المرتكز على أسانيد الحقيقة، كل الحقيقة، ولاشيء غير الحقيقة. إن لم يستفحل الأمر، ولم يبلغ تخوم الظاهرة بعد، ومن منحى: إذا صدئ الرأي أصقلته المشورة المهنية، عمدت محررتان من «عكاظ» إلى مبتكر مهني ومجسي في ذات الوقت، غايته متجردة من كل مأرب مستبطن إلا من رائحة وضع الملح على الجرح، عقب ما استقدح الضمير الجمعي مع (أبو أنس)، واختطاف ابنه في رابعة النهار، وأمام الحراسات الأمنية، ومن قبله طفلا نجران من استبدلا خطأ. ليس الأمر ضربا من خيال، ولا مسلكا جافته مسارب المهنية التي تؤطر عمل الصحافي ضمن ضوابط لا تنفذ من أقطار الرسالة ومرآة الواقع. وتطبيقا، تجاسرت محررتا الصحيفة في تمويهية متقنة الأدوات، مبدؤها «لا ضرر ولا ضرار»، وتغييب ما حدث لئلا يمثل ثانية، فالأمر من الجوهرية بمكان ليمس فلذات الأكباد. تقودنا، وهذه بالطبع دهاليز مستشفى جدة للولادة والأطفال، مستغرقة في حركة (نحلية) المظهر، صباح يوم أحد لم يسلم من قيظ في المحيط والفناء الخارجيين، المحررتان مستهلتان المهمة الصحافية برصد المداخل والمخارج، مستخدمتان قرني استشعارهما الصحافي بدلا من غياب الكاميرات التي يؤكد مدير المشفى غرسها في إحداثيات المكان، فيما لم يغب عناصر الأمن عن المشهد متواجدين بكثافة مترقبة الحواس. المستخلص الأولي كان عدم استحالة تنفيذ التمويهية في الخروج بطفل مختطف بعيدا عن الأسوار، فالتجوال داخل المستشفى كان متاحا للمحررتين حتى بعد أوقات الزيارة أو قبلها. استأثرت غرفة محددة باهتمام المحررتين، رغم تماهيها شكلا ومدخلا مع الأخريات. المساومة، أولا، بدت أداة ناجعة أمام أفراد أسرة كاشفتها بالمهمة التي ترمي إلى اختبار الجدار الأمني للمستشفى، بيد أن الأمر جانبه النجاح، فمريضة الغرفة لم تك غير سيدة أجرت عملية، ولا مولود لها داخل المستشفى. لم يعتر اليأس المحررتان، فجمعتا رباطة جأشهما متنقلتين في أكثر من غرفة دون رصد من عناصرالأمن، في محاولة للعثور على سيدة أخرى تتبرع لاستكمال خيوط التحقيق الصحافي الذي يأتي لتقييم الرقابة ابتداء من الولادة، مرورا بإجراءات التسجيل والتوثيق، وانتهاء بتسليم الطفل لذويه دون أخطاء. وبارقة الأمل كانت في إحداهما أبدت استعدادا لتسليمنا طفلها، وفق شروط تضمن عودته في أسوأ الظروف. وتبلور الاتفاق على أن تحضر المحررتان في اليوم التالي. الخامسة مساء من نهار الإثنين الطويل، وقبل الشروع في تنفيذ مهمة اختطاف الطفل، بضوء أخضر من والدته وخالته التي كانت سترافقنا عند الخروج به من المستشفى، قفزت المفاجأة أمام الوجه عندما عمدت إدارة المستشفى إلى نقل الأم من غرفتها إلى أخرى بعد (وشاية) من السيدة الأولى بمفاوضاتنا حول الاختطاف. عندها، حاولت المحررتان الاتصال بها، بيد أن هاتفها كان مغلقا، لتبدأ محاولات البحث عنها من غرفة لأخرى، فيما بدا أن هناك استنفاراً لعناصر أمنية لم يك معهودا وغير طبيعي . تقدم أحدهم، أي عناصر الأمن، مستفسرا عن غاية وعن ماهية ماتبحث عنه المحررتان، اللتان عاجلتاه باسم السيدة التي أبلغت عنهما، فرافقهما الأمن وهما لا تعلمان إلى أن وصلتا الغرفة التي تستشفى فيها السيدة والتي تظاهرت بعدم معرفتهما، وكشفت، إثر ذلك، لعناصر الأمن عن هويتهما، وأنهما المعنيات بالبلاغ المقدم عنهما. وأمام الملابسات التي لم يكن مخرجا من تلافيها، أماطت المحررتان عن هويتهما الصحافية وهما تحت ضغط الموقف. شاع الأمر في أمكنة المشفى، والتف حول الصحافيتين أربعة من عناصر الأمن، مجردين إياهما من بطاقاتهما الصحافية، وقادهما إلى مكتب المدير المناوب، حيث تفاجأتا بوجود ثلاثة مديرين مناوبين ومدير المستشفى. حينها تأكدت المحررتان أن سبب كشف تمويههما لم يكن بسبب اليقظة الأمنية، بل يعزى إلى بلاغ صريح، وأكد اعتقادهما وجود رجال الشرطة خلال دقائق من دخولهما غرفة المدير. جرى التحقيق معهما وسجل ذلك في محضر المستشفى، وتفهم المدير المهمة متجاوبا مع الأسئلة الصحافية على نحو إيجابي. لم يستتب الأمر للصحافيتين، فعقب ساعة واحدة فقط، طلب منهما الذهاب إلى مركز شرطة الشرفية، لأن إدارة المستشفى علمت بالمفاوضات منذ البداية وأبلغت الشرطة فكان لا بد من إثبات هويتيهما. مكثتا في قسم الشرطة ساعتين ونصف الساعة، إلى أن تأكدوا أنهما في مهمة عمل بموجب خطاب من رئيس تحرير الصحيفة، ولم تمارساها دون علمه. في أثناء انتظارنا للخطاب الذي يثبت أننا في مهمة كشف حقيقة طلبنا الدخول للتوقيف ولكن ذكر أفراد الشرطة أنه لا يوجد توقيف داخل الشرطة . وإبان وجود المحررتين في القسم، شاهدتا عددا من الحالات التي دخلت الشرطة تستدعي مهمات أخرى لكشف حقائق كثيرة. وانتهى الحدث في قسم شرطة الشرفية بعد أن تفهم المحققون طبيعة العمل الصحافي، والرغبة في الكشف عن الثغرات المؤدية لسرقة المواليد من داخل المستشفيات، بالاستناد للحوادث السابقة التي شهدتها بعض مدن المملكة، إذ جرى مباشرة عمل إجراءات الإفراج، بعد أن تأكد للقائمين على قسم الشرطة انتسابهن ل «عكاظ».