لهجرة المصطفى (عليه أفضل الصلوات وأتم السليم) من مكة التي أنكرت عليه رسالة السماء وآذته العديد من الدلالات والمعاني التي يمكن استخلاص الكثير من الدروس والعبر منها، ولا يكتسب هذا الحدث التاريخ قيمته إلا متمحورا حول شخص الرسول الذي وإن كان بشرا يسعى في الأسواق مثله مثل غير من الناس، إلا أنه كان يتمتع بصفات إنسانية استثنائية، ولو أننا تعمقنا النظر قليلا سنجد أن هذه الصفات في ذاتها ليست هي الاستثنائية، فهي الصفات الإنسانية ذاتها التي يحمل بعض من الناس هذه أو تلك منها، إلا أن الرسول أخذ بها جميعا ثم أنه جسدها فكرا وسلوكا في حدودها القصوى، فذهب إلى أقصى غاياته وكذلك فعل الشيء نفسه مع بقية حميد الصفات، وقد صدق المعصوم (صلى الله عليه وسلم) حين قال: «أدبني ربي فأحسن تأديبي». وبعض الناس يجعلون من التربية الإلهية للرسول حجة يبررون بها تقاعسهم عن الارتفاع إلى ذرى أخلاق المصطفى (عليه السلام)، قائلين بأن تلك الذرى إنما هي خاصة بمحمد (صلى الله عليه وسلم)، وكأنهم لم يمروا على الآية التي تقول «قل إن كنتم تحبون الله فاتبعوني يحببكم الله»، وكيف يكون اتباعنا للمعصوم إن لم يكن بمحاكاته في كل شيء، وليس في عبادته وحدها؟!. واليوم إذ تحل ذكرى هجرته (صلى الله عليه وسلم) فإننا مدعوون لأن نهاجر معه وبصحبته، بأن نهجر قرية أخلاقياتنا السلبية التي درجنا عليها من أنانية وتقاعس وبخل وضيق أفق إلى مدينة أخلاقه الرحبة التي تفيض بالحب والكرم والإيثار والخير والتسامح، وبكل القيم العلية الرفيعة التي حمل لواءها وبشر بها وجسدها عليه الصلاة السلام في حياته فكرا وسلوكا، ولنجعله رائدنا في هجرتنا من نفوسنا الشحيحة إلى الله خالقنا الذي إليه معادنا، نستصحب معنا حلو صفاته وشمائله الزكية، فهكذا يجب أن يكون احتفالنا بذكرى هجرته النبوية الشريفة. وحين تمعن النظر اليوم في كافة أحوالنا تجد أننا بالفعل في أم الحاجة إلى الهجرة مع المصطفى (صلى الله عليه وسلم)، حيث انتشر الفساد وأصيب جهازنا الأخلاقي بالترهل وعم الكذب والإخلال بالوعود وصار الناس يتعاملون باستهانة فيما يسند إليهم من مسؤوليات وصرنا أكثر إصرارا على القشور والمظاهر وهجرنا اللباب والجوهر، وبالمختصر المفيد صرنا أكثر انكبابا وتهافتا على الحياة الدنيا وأهملنا أمر آخرتنا تماما، وقد آن لنا أن نأخذ طريق هجرتنا مع رائدنا، المبعوث فينا بالحق ومن حقت له الشفاعة في الدار الآخرة سيد خلق الله (صلى الله عليه وسلم)، يوم لا ينفع مال أو بنون، إلا من أتى الرحمن بقلب سليم . بهذا المفهوم تكون هجرتنا مع المصطفى (صلى الله عليه وسلم) من «مكة معاصينا» إلى «مدينة فضائل رسولنا الكريم» عليه أفضل الصلوات وأتم التسليم، وهكذا يكون احتفالنا بهجرته (صلى الله عليه وسلم) مناسبة نقف فيها مع أنفسنا وقفة ناقدة جادة نطهر بها أنفسنا مما علق بها آثام. * أكاديمي وكاتب سعودي. www.binsabaan.com للتواصل أرسل رسالة نصية sms إلى 88548 الاتصالات أو 636250 موبايلي أو 737701 زين تبدأ بالرمز 215 مسافة ثم الرسالة