يقف العالم المعاصر اليوم على أعتاب نمط جديد أفرزته ثورة المعلومات والاتصالات التي أعادت صياغة عالمنا المعاصر بما يفرض ضرورة توفر عقلية جديدة للتعامل مع هذا الواقع الجديد، فالعالم يعيش تغيرا نوعيا في مختلف مجالات الحياة الاقتصادية والسياسية والثقافية والاجتماعية، حيث ساعدت ثورة المعلومات والاتصالات على سرعة انتقال المعلومات، كما وفرت إمكانيات الاتصال والتعامل المباشر سواء عبر شبكة الإنترنت (Internet) أو عبر شبكات المعلومات المحلية (Interanet)، فضلا عن تقديم ما لا يحصى من الخدمات الإلكترونية والذكية، مما أدى إلى ولادة عصر جديد هو «عصر المعرفة» أو ما يسمى «مجتمع المعرفة» (Knowledge society). صحيح أن «تكنولوجيا المعلومات» (Information Technology) هي اختصاص واسع يهتم بالتكنولوجيا ونواحيها المتعلقة بمعالجة المعلومات، تتعامل هذه التكنولوجيا بشكل خاص مع أجهزة وبرامج الكومبيوتر لتحويل وتخزين وحماية ومعالجة المعلومات وأيضا نقل هذه المعلومات واسترجاعها لكن نتاج التقدم الهائل في مجال تكنولوجيا المعلومات بحيث يمكن الحصول على المعلومات من مصادر كثيرة متنوعة دون عناء أو تكاليف باهظة جعل من المعرفة خيارا استراتيجيا وصناعة للدول المعاصرة، وبالتالي أصبحت المعرفة والإبداع من أهم العوامل المؤثرة والمحددة لقيام ما يطلق عليه اسم (مجتمع المعرفة) الذي يختلف عن مجتمع المعلومات في أنه مجتمع قادر على إنتاج البرمجيات وليس فقط استخدام أو حتى إنتاج المعدات الصلبة أو الأجهزة التي تستخدم في الحصول على المعرفة. وهذا ما أورده المفكر الأمريكي بيتر دراكر أشهر دعاة «مجتمع المعرفة» في مقدمة كتابه «مجتمع ما بعد الرأسمالية»، والذي تحدث أيضا عن أنه يحدث في سياق التاريخ الغربي كل خمسة أو ستة عقود تقريبا انفصال أو قطيعة تغيير النظرة إلى العالم ويحدث تغيير جذري كما اعتبر دراكر التجربة والتعليم هما المصدران الأساسيان للمعرفة. كما يختزل المفكر بيتر دراكر أنماط المعرفة بالمجتمعات بأنها إما معرفة نفسية أو معرفة عملية. بحيث يوضح إلى أن المعرفة النفسية هي تلك التي تبنى على أساس أن الوظيفة الرئيسية للعملية الفكرية هي معرفة النفس بينما يحدد دراكر المعرفة العملية بكونها تجعل «الغاية من المعرفة هي جعل مكتسبها فاعلا من خلال تمكينه من معرفة ماذا يقول وكيف يقول ما يعرف». إن المجتمع المعرفي هو المجتمع الذي تصبح فيه المعرفة إحدى المرتكزات الأساسية في التنمية الشاملة حيث تتجه المجتمعات المعاصرة حاليا إلى الابتعاد عن الطرق التقليدية في التعلم والتكيف مع التغيرات التي أحدثتها تقنية المعلومات والاتصالات وتحتاج بصورة رئيسية إلى تعليم عام وتعليم عال متطور، يسهم في بناء الإبداع والابتكار والتثقيف الذاتي وبالتالي يصنع نموا متزايدا في قوة العمل التي تمتلك المعرفة وتستطيع التعامل معها بيسر وسهولة وتحول هيئات ومؤسسات ومنظمات المجتمع المدني الخاصة والحكومية إلى هيئات ومنظمات (ذكية) ليتمكن أفراد المجتمع من إنتاج المعرفة ونشرها وتوظيفها بكفاءة في جميع مجالات النشاط المجتمعي. وفي الوقت الذي تتسابق الأمم لبناء مجتمع معرفي باعتبار ذلك السمة الأساسية المميزة لمجتمع المستقبل تخلو قائمة أهم 50 دولة تتصدر البيئة التحتية الاتصالية من أي دول عربية حيث تتقدم هذه القائمة دول مثل السويد والنرويج وفنلندا وأمريكا وسويسرا وأستراليا وسنغافورة وهولندا واليابان وكندا وألمانيا وهونغ كونغ، وبالتالي فإن الدول العربية أصبحت خارج التنافس المعرفي ناهيك أن الدول المتقدمة أصبحت لا تسعى لاكتساب المعرفة واستيرادها أو استعمالها فقط، بل إنتاجها كقيمة مضافة للإبداع والابتكار إدراكا من هذه الدول المتقدمة بأهمية المعرفة من أجل المنافسة والهيمنة السياسية والاجتماعية والثقافية والاقتصادية على المجتمعات الأخرى وأن هذه كله لن يتحقق إلا عبر (إنتاج) هذه المعرفة وهذا تأكيد لما ذهب إليه المفكر الأمريكي أحد أبرز الكتاب والمحللين المتخصصين في دراسات المستقبل في الولاياتالمتحدةالأمريكية، إلفين توفلر صاحب كتاب «صدمة المستقبل» عام 1970، و«الموجة الثالثة» عام 1980، الذي أكد أن المعرفة مورد لا ينضب وهي البديل للموارد الأخرى بحيث تقلل المعرفة الحاجة إلى رأس المال والمواد الخام والعمالة والوقت والمكان بالتالي تصبح المعرفة المورد المحوري والرئيسي للاقتصاد المتقدم. إن الاستثمار في بناء الإنسان السعودي والارتقاء به في مجالات عدة يمثل واحدا من أهم أوجه أولويات وتوجهات حكومة خادم الحرمين الشريفين الملك عبدالله بن عبدالعزيز آل سعود حفظه الله والتي تسعى جاهدة إلى بناء قدرات بشرية تستطيع الانخراط في مجتمع المعرفة، حيث إن المعرفة وبناء المجتمع المعرفي يعتبران حجر الزاوية في التنمية الإنسانية وبالتالي بناء المواطن العصري يأتي تجسيدا لمبدأ أن الاستثمار في مناجم العقول هو الاستثمار الأمثل والأكثر جدوى وفاعلية في بناء الأمم. المملكة بحاجة إلى وضع استراتيجية وطنية شاملة للتحول إلى المجتمع المعرفي تعتمد على القدرة الوطنية القادرة على التأمل والتفكير والإبداع والابتكار لإنتاج وتطوير وتطبيق المعرفة في مختلف المجالات لتساهم في ترسيخ نمط مجتمع المعرفة خاصة أننا نملك بعض المشاريع التي تعزز من هذا التوجه وتسهل بلوغه مثل: - مشروع الحكومة الإلكترونية والذي يجسد برنامج التعاملات الإلكترونية الحكومية (يسر) اهتمام المملكة لتطبيق مفهوم التعاملات الإلكترونية الحكومية. - مدينة الملك عبد العزيز للعلوم والتقنية التي تعد منشأة علمية تقوم بدعم وتشجيع البحث العلمي للأغراض التطبيقية وتنسيق نشاطات مؤسسات ومراكز البحوث العلمية في هذا المجال بما يتناسب مع متطلبات التنمية في المملكة، والتعاون مع الأجهزة المختصة لتحديد الأولويات والسياسات الوطنية في مجال العلوم والتقنية من أجل بناء قاعدة علمية تقنية لخدمة التنمية في المجالات الزراعية والصناعية وغيرها، والعمل على تطوير الكفايات العلمية الوطنية واستقطاب الكفاءات العالية القادرة لتعمل في تطوير وتطويع التقنية الحديثة لخدمة التنمية في المملكة. - جامعة الملك عبد الله للعلوم والتقنية التي تعد جامعة عالمية للأبحاث على مستوى الدراسات العليا، وتهدف إلى رعاية الموهوبين والمبدعين والباحثين ودعم الصناعات الوطنية ودعم وإنشاء صناعات جديدة تقوم على المعرفة ودعم الاقتصاد الوطني وزيادة الناتج الإجمالي ودعم منظومة الإبداع والقدرة على توليد الأفكار المبتكرة وتحويلها إلى اختراعات تشكل قيمة اقتصادية مضافة والإسهام الإيجابي في التعامل مع المؤسسات البحثية والإسهام في التحول إلى مجتمع صانع للمعرفة. - مشروع خادم الحرمين الشريفين لتطوير التعليم العام الذي يعزز القدرة على تنمية أجيال مستقبلية قادرة على التعامل مع النظم الحديثة والتكنولوجيا المتقدمة. - مؤسسة الملك عبد العزيز ورجاله للموهبة والإبداع والتي تدعم بناء وتطوير بيئة ومجتمع الإبداع بمفهومه الشامل في المملكة. - مدينة الملك عبد الله الاقتصادية باعتبارها أول المدن الذكية في العالم. - برنامج خادم الحرمين الشريفين الملك عبد الله بن عبد العزيز للابتعاث الخارجي الذي يسعى برنامج الابتعاث الخارجي إلى مواءمة مخرجاته مع احتياجات سوق العمل الوطني، وذلك بتوجيه البرامج والتخصصات التي تقدم للمبتعثين، وربطها باحتياجات سوق العمل، ومواكبتها لحركة التنمية والتطوير الذي تشهده البلاد. - والمشاريع الأخرى التي تتخذ من الإبداع والابتكار المعرفي محورا وهدفا استراتيجيا والتي تستوجب قيام شراكة تكاملية وتوافقية من أجل التعاون المستمر بين مثل هذه الهيئات والمؤسسات التعليمية والشراكات المعرفية والهيئات المختلفة داخليا وإقليميا ودوليا. - كما أود أن أذكر أن بناء مجتمع المعرفة يتطلب مساهمة كافة قطاعات ومكونات المتجمع، وليس ذلك وقفا على الدولة وحدها، فمنظمات المتجمع المدني ومؤسساته مدعوة للإسهام في التمهيد وتعبيد الطريق نحو المجتمع المعرفي. - كل هذه الإنجازات تدفع بضرورة تبني ما أعلنه الأمير فيصل بن عبد الله آل سعود وزير التربية والتعليم السعودي الذي أطلق على سموه مسمى (وزير الإبداع المعرفي) بسبب استشعار سموه الأهمية الاستراتيجية في التفكير في بناء مجتمع المعرفة، وإدراك سموه لماذا تقدمت دول النمور الآسيوية التي ركزت على انطلاقة تعليمية مبدعة في حين تعثرت دول أمريكا اللاتينية التي لم تهتم بتطوير التعليم، كما أن تبني سموه استراتيجية وطنية للتحول إلى المجتمع المعرفي تعتمد على القدرة الوطنية للابتكار وكفاءة الإنتاج والتنافسية العالمية لتحقيق تنمية مستدامة من خلال ثروة بشرية مبدعة وبيئة تقنية متطورة وإنشاء بنية تحتية حديثة ومحفزة يحمل في طياته فكرا راقيا ومبدعا يستوجب الوقوف أمامه مليا خاصة أنه جاء مواكبا لتطلعات حكومة خادم الحرمين الشريفين الملك عبد الله بن عبد العزيز آل سعود حفظه الله لبناء المواطن السعودي وأتمنى أن تنشأ هيئة عليا تعنى بالإبداع المعرفي برئاسة مليك مفدى جعل بناء المواطن السعودي محور اهتمامه وبشهادة العالم. وبذلك تسهم هذه اللجنة العليا في تنشئة أجيال جديدة من المواطنين تجيد التعامل مع هو سائد الآن من تعليم يبنى على التأمل والتفكير والإبداع والابتكار بحيث يؤلفون قوة ضخمة عاملة في إنتاج المعرفة وهو ما يطلق عليه الآن مسمى Knowledge Workers بحيث يصبح جل اهتمامهم في تطبيق وتطوير وإنتاج أنماط المعرفة في مختلف المجالات، فإنتاج المعرفة يحتاج إلى وجود ثقافة معرفية متميزة في مجتمع مهيأ للتعامل معها والتعايش معها. خلاصة القول: الاستثمار في مناجم العقول هو الاستثمار الأمثل والأكثر جدوى وفاعلية في بناء الأمم. * رئيس قسم الإعلام مستشار عمادة شؤون الطلاب للشؤون الإعلامية جامعة أم القرى [email protected]