يقول الوشاء، من أدباء القرن الثالث الهجري في كتابه الظريف (الموشى): «والمبادرة بالانصراف بعد تغير الآلاف، من الحزم المكين والرأي الرصين». ويقول في مكان آخر: «ثم إن أجهل الجهالة، وأضل الضلالة صبر الفتى الأديب على غدر الحبيب، فإن الصبر على الظلم والغدر، يضع من المروءة والقدر» ويستشهد على رأيه هذا ببعض أبيات من الشعر مثل قول عبيد الله بن طاهر: سألتك: هل للناقض العهد والذي ... يخون سوى الإعراض والصد والهجر؟ فلو كنت لي عينا، إذن لفقأتها ... ولو كنت لي أذنا رميتك بالوقر ولو كنت لي كفا، إذن لقطعتها ... ولو كنت لي قلبا نزعتك من صدري الموشى هنا يجعل الاستمرار في الوصال بعد التعرض للغدر والخذلان على يد الحبيب، نوعا من الضعة ونقصا في المروءة، حيث ينص على أن الحزم المكين والرأي الرصين، في المبادرة بالهجر والانصراف بعيدا. هذا يعني أن الموشى يطالب المحبين أن يخضعوا قضايا القلب لحكم العقل، لا أن يتركوها تتذبذب بهم وفقا لنبضات القلوب، فمن المعروف أن القلوب المحبة عنيدة، لا تتبدل فجأة ولا تغير بوصلتها العاشقة في لحظة، هي أعجز من أن تسلو سريعا حبيبا استحوذ حبه على الروح والفكر سنين طويلة، حتى إن ساءها منه ما يظهر عليه من الفتور واللامبالاة، أو ما يتجسد في مسلكه من عدم التبث أو الحرص على إرواء العلاقة بماء الحياة، لذلك عمد الموشى إلى الحث على اللجوء إلى العقل والاستعانة به، عند التعرض لمثل تلك الحالات. إلا أنه مع ذلك لا يمكن إنكار القول بأن القلوب عرضة للتقلب والتغير فيما تنبض به من المشاعر، ومن شعلة الحب فيها قابلة للخمود والانطفاء، فالحب، كما يقال، نبتة إذا لم ترو بالوصال، تذبل وتموت، لكن ذلك لا يعني أن تبدل القلوب يحدث سريعا، أو أن الحب يموت فجأة. وإذا كان الأمر كذلك كيف يمكن لنا إذن أن نفسر ما يحدث أحيانا من هجر فجائي إن لم يكن بسبب تبدل القلب وانطفاء الحب؟ إنه أحد احتمالين: إما أن يكون الهجر، كما ينصح الموشى، استجابة لأوامر عقلية، كأن يقع إثر غدر من الحبيب أو نقض عهد، فلا تكون الصريمة لموت الحب، وإنما خضوع لأمر العقل الذي لا يرى نفعا في وصال من غني بغيره وآثره عليه، فيكون الهجر للشفاء والراحة، وهو ما تؤكده أبيات المتنبي: عتبت عليكم مرة بعد مرة .. وأفرطت في التعذال واللوم والزجر فلما رأيت القول ليس بنافعي .. ولا النهي مقبولا لدي ولا أمري زجرت فؤادي زجرة عن هواكم .. وقلت له سرا فأصغى إلى سري تعز، فإن الغدر منه سجية .. ولا داء أدوى من معالجة الغدر تعز، فإن اليأس يذهب بالهوى .. ولا شيء أشفى للفؤاد من الهجر والاحتمال الآخر، أن يكون الحب زائفا والقلب كاذبا فيما ادعاه. فمن يتباهى بقول: «فإن تقبلي بالود، نقبل بمثله، وإن تؤذيننا بالصريمة نصرم»، أو بقول: «سلام عليها ما أحبت سلامنا، فإن كرهته فالسلام على أخرى»، هو بلا أدنى شك كاذب في الحب، فالحب الحقيقي لا يمكن محوه بهذه البساطة، ولا يمكن أن ينظر إليه القلب في إطار هذه المعادلة السمجة، التي تجعل الحب نوعا من المقايضة والمعاملة بالمثل. فاكس 4555382-01 للتواصل أرسل رسالة نصية sms إلى 88548 الاتصالات أو636250 موبايلي أو 737701 زين تبدأ بالرمز 160 مسافة ثم الرسالة