تبارت الأقلام في رثاء فقيد الفكر والإدارة والأدب الدكتور غازي بن عبد الرحمن القصيبى. إن من أصعب الكتابات المراثي.. فما بالكم إن كنا نرثي شخصا عزيزا على القلب متعدد المواهب.. فهو شاعر وهو الأكاديمي وهو الإداري وهو المتحدث الآسر. كان رحمه الله شجاعا مقداما يقتحم مواطن الحذر بثقة متناهية، مؤمنا بسلامة ما يدعو إليه. كان رحمه الله زميلا لشقيقي الأكبر السفير فوزي شبكشى خلال مرحلة الدراسة الجامعية في القاهرة، وكان شقيقي يحدثنا عن الكثير من محاسنه، غير أنني التقيت به لأول مرة حينما كان وزيرا للصحة في ثلوثية الإعلامي اللامع محمد سعيد طيب. وواجه تلك الليلة العديد من الأسئلة الحرجة، إلا أنه بكياسته المعهودة ورحابة صدره أقنع الحضور بوجهة نظره، فهو متحدث لبق ولديه قوة إقناع مذهلة، وإذا هو يسألني عن منصبي آنذاك فأجبته: عميد كلية الطب بجامعة الملك عبد العزيز.. فمازحني متسائلا إن كان بالإمكان أن نتبادل المناصب، حيث أنه كان يتوق للجو الأكاديمي، مشيرا إلى أن عمله كوزير يعنى الصحو المبكر، زوارا ثقلاء، ومصالح ترتدي ثوب النزاهة إلا أن وقته لا يسمح له بالاثنين. ومن المشهود للدكتور القصيبي أنه اختط مسالك وزارية جديدة للتغلب على البيروقراطية عبر الزيارات المفاجئة.. كان عرابا لتلك الزيارات الفجائية تبعه وزراء ليس في المملكة فحسب، بل وعلى مستوى العالم العربي، وخير دليل على أسلوبه الإداري الناجح ما صاغه يراعه الرشيق في كتابه «حياة في الإدارة» دون فيه مسيرته في العمل الأكاديمي والسياسي والدبلوماسي يقدم فن الإدارة بأسلوب مبتكر، ويعتبر من أجمل كتب السيرة الذاتية الملهمة للأجيال، مبتعدا عن التنظير والنقاشات الفردية، ويقدم في ثنايا تجاربه فوائد إدارية استخلصها من معاركه مع البيروقراطية. التقيت بالدكتور القصيبي مرة أخرى حينما كان سفيرا لخادم الحرمين الشريفين في لندن، وكنت آنذاك وزيرا للصحة، فسرد لي المتاعب التي يواجهها في وزارة الصحة كأخ أكبر يحاول أن يرشدني، حتى لا أمر بنفس تجاربه المريرة في محاربة الفساد، حيث كشف عدد من الرشاوى في حقبة عمله في وزارتي الصناعة والكهرباء والصحة، وأصر على أن يرافقني من مكتبه إلى خارج مبنى السفارة. أثناء زيارة لي إلى سفارة المملكة في لندن قبل ثلاثة أسابيع استقبلني أحد سائقي السفارة وهو سوداني الأصل بريطاني الجنسية، وكان يعتقد أننى آتٍ من المملكة، فسألني بتلهف عن صحة الدكتور غازي القصيبى، وإذا بعينه تفيض دمعا حينما طلبت منه الدعاء له.. فسألته عن أسباب بكائه، فأخبرني بأن الدكتور غازي القصيبى كان عطوفا حنونا عامل جميع العاملين بالسفارة كعائلة واحدة، ما أكسبه ود واحترام العاملين في السفارة. تشرفت بمزاملة الدكتور القصيبي أثناء رحلة الوزراء من وإلى مجلس الوزراء، إذ كان المجلس ينعقد بمحافظة جدة. وفى إحدى رحلات العودة إلى الرياض جلس بجواري ليخبرني بأن والدته توفيت في عز شبابها عن ثمانية وعشرين ربيعا في الإحساء نتيجة إصابتها بداء التيفوئيد، كان متأثرا للغاية في حديثه، فأدرت دفة الحديث إلى مادة يعشقها.. الأدب، واتفقنا على حبنا للأدب، هو الأديب الألمعي والشاعر مرهف الأحاسيس، وأنا كقارئ مستمتع بشعره وسلاسته، تقمص في كثير من أشعاره روح أستاذه أبو الطيب المتنبي المتمردة والطموحة، والتي تطل على فضاء اللغة بكثير من الاعتزاز، إلى أن استعار منه صفة لازمته أينما رحل وهى: (مالئ الدنيا وشاغل الناس)، بعد كل كتاب أو ديوان شعر أو قصيدة يخطها قلمه الرشيق ليعود بعدها رحمه الله إلى عمله الوزاري أو الدبلوماسي، متمثلا قول المتنبي: أنام ملء جفوني عن شواردها ويسهر الخلق جراها ويختصم ومن المصادفات العجيبة أن يلبي كلاهما نداء ربه خلال شهر رمضان المبارك، حيث قتل المتنبي في النعمانية ما بين 24 28 رمضان 359ه الموافق 27 سبتمبر 960م، أرجو من الله أن يرحمه في هذا الشهر الفضيل.. شهر أوله رحمة، وأوسطه مغفرة، وآخره عتق من النار. سألني مرة قبل اجتماع مجلس الوزراء أي كتب من كتبه قرأتها فأجبته: «حياة في الإدارة»، «العصفورية»، و«ثورة في السنة النبوية». وحينما سألني عن رأيي فيها أجبته: من أنا حتى أقيم عملاق الأدب العربي، فتبسم بلطف وكان رحمه الله غزير الكتابة منظما لأوقاته، ما مكنه من إثراء المكتبة العربية، إضافة إلى كتبه وإبداعاته الشعرية مثل: «صوت الخليج»، «الأشج»، «اللون عن الأوراد»، «أشعار من جزائر اللؤلؤ»، «سحيم»، و«معركة بلا راية». أما في الفكر: «الغزو الثقافي»، «أمريكا والسعودية»، «حياة فى الإدارة»، و«الأسطورة». أما آخر كتاب خطته أنامله وهو على فراش المرض سماه (الزهايمر) أشبه ما يكون بوصيته الأخيرة يعرب فيها عن نظرته إلى أمور طالما شغلته، مثل: الشيخوخة، الذكريات، النسيان، الألم، والموت. إنها شهادة القصيبى على أيام المرض والعلاج، إلا أن كرامته حالت دون أن يمنح هذا النص صفة السيرة الذاتية، فأختبأ خلف بطله «يعقوب العريان». قبل سفري إلى ألمانيا، بعد تشرفي بالثقة الملكية الغالية لكي أستلم مهام عملي كسفير لخادم الحرمين الشريفين زرت الدكتور القصيبي مودعا، ولكي أستنير بخبرته كسفير محنك، سواء أكان في فترة عمله في البحرين أو بريطانيا، فوجدته مهموما حزينا كوزير للعمل من ردة فعل رجال الأعمال على محاولاته سعودة بعض الوظائف، مبديا امتعاضه من عدم تعاون رجال الأعمال مع خطط الوزارة للحد من البطالة. إن فقد الدكتور غازي القصيبى ليس سهلا.. فقد كان ملء السمع والبصر حاضرا في كل مجال للخير.. كان قريبا من ربه يخافه ويرجوه، كما وضح من بيتي الشعر الأخيرين اللذين أرسلهما وهو على فراش المرض إلى الشيخ سلمان العودة كاتبا: أغالب الليل الحزين الطويل أغالب الداء السقيم الوبيل أغالب الآلام مهما طغت بحسبي الله ونعم الوكيل لا أتصور منصبا يمكن أن يتولاه أبو سهيل إلا نجح فيه وأبدع. لقد أتقن أصول الإدارة.. كان شجاعا فيما يرى أنه حق، حتى وإن كان على نفسه، كان وقته وقفا على وطنه وخدمة مليكه بهمة قعساء، كان نجما يشغل الأسماع والأبصار تغريدا بحب الوطن. إن حيز المقال ضيق لا يفيه حقه بأي حال من الأحوال، مقترحا أن تكتب عنه رسائل ماجستير ودكتوراة لتحليل كنوزه الشعرية والأدبية والإدارية، إن من حقه علينا أن نتذكره وأن نذكره بالخير، إلا أن من طبيعة الحياة تلاشي الذكرى مع مرور الوقت، لذلك أؤيد اقتراح الأخ العزيز الدكتور هاشم عبده هاشم في صدد تكريم الوزير والأديب والإداري غازي القصيبى بأن تتولى جامعة الملك سعود (والتي عمل بها رحمه الله) تأسيس كرسي علمي يطلق عليه كرسي غازي القصيبى للإبداع وأن يطلق اسمه على إحدى قاعات المحاضرات في الكلية التي عمل بها: كلية التجارة (إدارة الأعمال حاليا) بجامعة الملك سعود (أسوة بما قام به رجل الوفاء صاحب السمو الملكي الأمير سلمان بن عبد العزيز ،حينما أصر على تسمية إحدى قاعات مبنى جمعية الأطفال المعوقين باسم غازي القصيبى، تقديرا لتبنيه فكرة تأسيس جمعية الأطفال المعوقين والتي رعى انطلاقاتها الأولى)، وحتى لا تنطفئ شعلة ذكراه في خواطرنا. عزاؤنا لوالد الجميع خادم الحرمين الشريفين الملك عبد الله بن عبد العزيز، وولي عهده الأمين صاحب السمو الملكي الأمير سلطان بن عبد العزيز، والنائب الثاني صاحب السمو الملكي الأمير نايف بن عبد العزيز، ولعائلته الكريمة وأبنائه وبناته وأسرة القصيبى كافة ولأصدقائه وأحبائه، وأن يلهم الجميع الصبر والسلوان. «وإنا لله وإنا إليه راجعون».