غيب الموت الوزير غازي القصيبي، رجل القصائد الرقيقة ، والأبيات الوطنية، والإدارة الرائعة، رحل عن دنيانا وزير الزيارات المفاجئة، الرجل العملي النشيط، الذي يرفض دعوات (الربع) كما وصفهم، الذين يريدون أن يكرموه بدعوته إلى حفلات تقدم فيها أصناف من الوجبات المختلفة، فحيث اقترح أن يعطوه أموال الحفلات لصرفها في تطوير أجهزة الوزارة. بمعنى أن حفلات التكريم لن تزيد في شخصه ولن تلمع شخصيته كوزير، لكنها تبذير في غير محله. وأرى من وجهة نظري أن رأيه كان منطقيا وعمليا وواقعيا. لي مع الوزير القصيبي رحمه الله عدد من المقابلات الشخصية، وكان أشهرها عندما زرته في مقر عمله بسفارة المملكة العربية السعودية بلندن، عندما كان يشغل منصب سفير خادم الحرمين الشريفين، وكنت يومها مديرا للمركز الثقافي الإسلامي بمدريد بأسبانيا، وكنت أحضر مؤتمرا إسلاميا في بريطانيا، ويومها كنت أرتدي الزي السعودي كاملا، فأخذني مسئول العلاقات بالسفارة إلى قاعة استقبال حيث حضر بعدها معالي الدكتور القصيبي، وكان غاية في الأناقة، فما أن شاهدني بزيي السعودي حتى ابتسم وقال مداعبا: أنت سفيرنا في بريطانيا، فقلت له بل أنا سفير الإسلام في إسبانيا، فجلس بجواري، وخلال اللقاء دار بيني وبينه حوار جميل أشعرني بأنني أتكلم مع شخصية عالية الثقافة فائقة العلم. حتى أسئلته عن الجالية الإسلامية لم تكن أسئلة عادية، فهو يريد أن يصل من خلال أجوبتي إلى معرفة اتجاهات وتوجهات الجالية في إسبانيا، يسأل من خلفية لها تجربة في هذا المجال. ثم أهداني بعضا من كتبه، ومنها روايته الشهيرة ( شقة الحرية ). والذي رأيت فيها غازي القصيبي طالبا يبحث عن الحرية في مصر بزاوية غازي القصيبي. ثم دعاني لأداء صلاة الجمعة في السفارة ، وفعلت. ثم قابلته مرة أخرى في مدينة بون بألمانيا، في حفل افتتاح الأكاديمية السعودية هناك، حيث دعاني سعادة الأستاذ عباس فائق غزاوي سفير خادم الحرمين الشريفين بألمانيا رحمه الله، وما أن قابلني الدكتور القصيبي حتى رحب بي، وأخرج من جيبه قنينة من دهن العود، ثم أخذ يقول لي أنتم المشايخ تحبون العود. فعطرني بالعود الفائق الجودة، وطبعا إذا لم يكن غازي القصيبي يمتلك هذا النوع من العود فمن يملكه!!. وكان من بين المدعوين آنذاك، الأستاذ محمد نوري إبراهيم سفير المملكة بأسبانيا، والأستاذ ناصر العساف سفير المملكة في بلجيكا، رحمهم الله أجمعين، والدكتور محمد الرشيد وزير المعارف، والأستاذ علي سروجي. وغيرهم... ومن جهة أخرى، فأنا من عشاق شعر القصيبي ، فله شعر قوي راق، يهزك طربا عندما تقرأه، لا تستطيع إلا أن تكمل القصيدة من جودتها وجمال نظمها وسلاسة معانيها. كما قرأت كثيرا من كتبه رحمه الله ، وأعجبتني روايته (الجنية) والتي كانت لها حبكة أدبية خيالية، وهي في ذات الوقت رواية تعد بحثا علميا شاملا عن الجن، في صورة رواية جميلة. تشد قارئها لجمال صياغتها وتركيبتها الأدبية الجميلة. كان القصيبي واحدا من القلائل الذين وضعوا بصماتهم في جميع الأماكن التي تواجدوا وعملوا بها، فقد هز وزارة الصحة ومستشفيات المملكة بزياراته المفاجئة، التي غربل فيها كثيرا من إدارات المستشفيات والشئون الصحية بالمناطق. كما أنه وبأبياته الشعرية استطاع أن يبحر عبر أمواج متلاطمة وعواصف عاتية، إلا أنه وصل إلى بر الأمان، أما شعره الحماسي والوطني فله رنة مزلزلة، والعاطفي والغزلي منه فله جمال ورقة لا يمكن لأحد أن يصفها ويجسدها أبياتا تحمل رسائل الشوق ومعاني الحب إلا غازي القصيبي، أما شعره الذي ودع فيه الدنيا، فقد كان مؤثرا مبدعا مثيرا للعواطف، ذارفا للدموع، يقول عندما بلغ الخامسة والستين: خمسٌ وستُونَ.. في أجفان إعصارِ أما سئمتَ ارتحالاً أيّها الساري؟ أما مللتَ من الأسفارِ.. ما هدأت إلا وألقتك في وعثاءِ أسفار؟ أما تَعِبتَ من الأعداءِ.. مَا برحوا يحاورونكَ بالكبريتِ والنارِ والصحبُ؟ أين رفاقُ العمرِ؟ هل بَقِيَتْ سوى ثُمالةِ أيامٍ.. وتذكارِ بلى! اكتفيتُ.. وأضناني السرى! وشكا قلبي العناءَ!... ولكن تلك أقداري ثم يوجه دفة الأبيات لرفيقة عمره فيقول لها: أيا رفيقةَ دربي!.. لو لديّ سوى عمري.. لقلتُ: فدى عينيكِ أعماري أحببتني.. وشبابي في فتوّتهِ وما تغيّرتِ.. والأوجاعُ سُمّاري منحتني من كنوز الحُبّ.. أَنفَسها وكنتُ لولا نداكِ الجائعَ العاري إنْ ساءلوكِ فقولي: كان يعشقني بكلِّ ما فيهِ من عُنفٍ.. وإصرار وكان يأوي إلى قلبي.. ويسكنه وكان يحمل في أضلاعهِ داري ثم يمضي مناجيا ربه قائلا: يا عالم الغيبِ! ذنبي أنتَ تعرفُه وأنت تعلمُ إعلاني.. وإسراري وأنتَ أدرى بإيمانٍ مننتَ به علي.. ما خدشته كل أوزاري أحببتُ لقياكَ.. حسن الظن يشفع لي أيرتُجَى العفو إلاّ عند غفَّارِ؟ أما آخر قصيدة له وهو على فراش الموت، يقول فيها بإيمان عميق وتسليم أمره لربه: أغالب الليل الحزين الطويل أغالب الداء المقيم الوبيل أغالب الآلام مهما طغت بحسبي الله ونعم الوكيل فحسبي الله قبيل الشروق وحسبي الله بُعيد الأصيل وحسبي الله إذا أسبلت دموعها عين الفقير العليل يا رب أنت المرتجي سيدي أنر لخطوتي سواء السبيل أنا الشريد اليوم يا سيدي فاغفر أيا رب لعبد ذليل رحم الله غازي القصيبي أستاذ الكلمة الأنيقة رحمةً واسعة، فقد كان أنموذجا فريدا استطاع بعلمه وإدارته وشعره وشخصيته أن يجسد لنا شخصية أدبية مبدعة، وإدارية متطورة، وإنسانية جريئة وثقافية متألقة، وشعرية رائعة... وليس لنا إلا أن نقول وداعا غازي، (إنا له وإنا إليه راجعون)... ويا أمان الخائفين.