في طفولتي، كنا ننتظر بشوق ولهفة في ليالي صيف جدة المشبعة بالرطوبة، أن يزداد الجو رطوبة وتنعدم النسمات الصيفية تماما، ليس لأننا نهوى الحر ولكن لأنه كان الطقس الأمثل لالتقاط قنوات التلفزيون المصري الأولى والثانية عبر (الأنتين) بكل وضوح لنستمتع في ليالي الصيف الطويلة بالمسلسلات والأفلام العربية والأجنبية والبرامج المختلفة، حيث يجد كل فرد في العائلة ضالته. لأهل جدة، كان التلفزيون المصري قبل عصر الستالايت بمثابة صندوق الدنيا، كبرنا على برامجه وحفظنا مسلسلاته وشاهدنا الكوميديا والدراما الإنجليزية والأمريكية عبره، وأيضا أنصتنا لخطب جمعة الأزهر وحلقات الشيخ متولي الشعرواي يوم الجمعة. أتذكر أنني كنت مفتونة على وجه خاص ببرنامج عن الأوبرا والباليه تقدمه المذيعة المصرية الشهيرة الدكتورة رتيبة حفني، لم أكن أفهم الكثير مما كانت تقوله، لكن ما إن تبدأ في عرض باليه كسارة البندق تنتفي الحاجة لأي شرح؛ مناظر الراقصين والراقصات والقصة الجميلة التي ترويها أجسادهم كانت تسحرني تماما وكأنهم في حلم جميل يتراقصون، والموسيقى ترافقهم وكأنهم يهبطون من عالم آخر رائق وعذب يستغني فيه الناس عن الكلام بالرقص، لا يشبه رقصنا الصارخ بل هو قفز وجري هادئ على الأصابع برشاقة وخفة. كان حلما أسبوعيا أرقبه بفرح وأحلم باليوم الذي أحضر فيه باليه بحيرة البجع. وفر لنا التلفزيون المصري حينها ملجأ صيفيا ثقافيا منوعا بلا ريب، لكنه في ذات الوقت آلمنا وأصابنا بالخيبة؛ فبين زحمة المسلسلات، الأفلام، المسرحيات والبرامج تظهر لنا فواصل إعلانية كانت تبدو لنا حينها براقة ومغرية حتى لو كانت إعلانا تجاريا عن علكة ما. ولكن ما كان يبعث على التعاسة بحق كانت تلك الإعلانات التي تبدأ بصوت إحدى المذيعات وهي تقول بمرح: أين تذهب هذا المساء؟ وهي تعني بالمساء طبعا مساء القاهرة وعروض الأفلام والمسرحيات بشكل خاص. كنت وخالتي الأصغر صديقة الطفولة ننظر لبعضنا بسخرية ونعيد السؤال أين نذهب هذا المساء؟ أين بالإمكان أن تقضي فتاتان سعوديتان صيفهما في جدة الثمانينيات؛ إحداهما مغرمة ببرامج المسابقات ومسلسل المهمة المستحيلة والأخرى بالباليه والأفلام الأجنبية بنهايات حزينة؟ تقرر خالتي أن نصنع سيارة! من بقايا علب كرتونية بالطبع، فأتحمس للفكرة وأبحث في فناء الدار (الحوش) عما يكفي لصنع سيارة بحجم لائق تكفي اثنتينا. تقوم هي بالتخطيط وتصميم الموديل وأساعدها في القص وربط الأجزاء، ننتهي ونحاول باستماتة أن نجعل السيارة الكرتونية تستقيم وتقف، نتعب بعد محاولات مضنية لنترك صنيعتنا التي خذلتنا ونعود لمشاهدة التلفاز بصمت هذه المرة. أستحضر هذه القصة وأمامي الموقع الرسمي لصيف جدة غير هذا العام أبحث في الفعاليات عن فعالية واحدة أستطيع أن أركب عليها صوت المذيعة الفرح والموسيقى المصاحبة لها بعد أن تنطق جملة الصيف الشهيرة: أين تذهب هذا المساء فلا أجد واحدة. الغالبية العظمى -إن لم تكن جميع الفعاليات- تجارية محضة تقام في مركز تجاري أو أحد المطاعم والمتنزهات. أسرح وأتخيل فتاتين في جدة، أبها، تبوك أو حائل يبحثن عن تسلية بريئة في مساء صيفي حار ورطب وأفكر هل ما زالت الفتيات يصنعن سيارات كرتونية على أمل أن يقدنها يوما ما حيث يحتفي الناس بالمساءات الصيفية كما يليق بها؟ [email protected] للتواصل أرسل رسالة نصية sms إلى 88548 الاتصالات أو 636250 موبايلي أو 737701 زين تبدأ بالرمز 249 مسافة ثم الرسالة