شهدت مدينة جدة حادثة أشبه ما تكون بالأفلام الهندية، حينما هاجمت إدارة الرخص الطبية والصيدلة في الشؤون الصحية في جدة يوم الأربعاء 26 جمادى الآخرة 1431ه مستشفى أهلياً في حي مكتظ بالسكان، والذي يفتقر لوجود مستشفى حكومي، وقامت بإغلاقه إضافة إلى الصيدلية الملحقة به بعد تفاقم الخلافات بين صاحب المستشفى والعاملين من الأطباء وطاقم التمريض والفنيين، وامتناع المالك عن تسديد رواتب العاملين منذ عدة شهور ما أدى إلى توقفهم عن العمل وتقديم شكوى إلى اللجنة العمالية في مكتب العمل، وأخرى إلى إمارة منطقة مكةالمكرمة للمطالبة بإلزام مالك المستشفى بتسديد الرواتب. ولم تكتف تلك الإدارة بالإغلاق بل وضعت لوحة كبيرة على باب المستشفى تفيد بأنه مغلق بناء على أوامرها. ولكن أحداث الفلم الهندي الذي كان المارة في الشارع الرئيس يتابعونه بمرارة لم تنته عند هذا الحد، فقد رد مالك المستشفى على الملصق بملصق آخر من جانبه يقول فيه بأن المستشفى مغلق لإجراء بعض الإصلاحات، لتعود «عكاظ» التي نشرت التقرير الصحافي الأول عن الواقعة في عددها 15993 يوم الخميس 27/6/1431ه لتنبيه تلك الإدارة إلى ما قام به المالك من مخالفة وتحد لأوامرها، لترتد إدارة الرخص في اليوم التالي وتضع ملصقاً جديداً فوق ملصق المالك. وبعد أيام من صراع الملصقات أزيلت كلها فجأة عن المستشفى ليصبح نظيفاً كما كان ودون أن يفتح أبوابه للمراجعين ودون إبداء الأسباب. والمفارقة التي تدعو للدهشة في وسط هذه المعمعة والغبار المتصاعد من معاركها تكمن في تصريح مدير الإدارة المذكورة الذي نقلت «عكاظ» عنه قوله (إن إغلاق المستشفى يؤكد الحرص على تأمين أفضل الخدمات الصحية للمرضى والمراجعين، وهو ما لم يتوافر في المستشفى بعد توقف الأطباء والفنيين والموظفين عن العمل)، وما نعرفه جميعاً في مثل هذه الحالات أن المسؤول حينما يتحدث عن حرصه على تأمين أفضل الخدمات للمرضى والمراجعين عليه أن يقرن أقواله بأفعاله فيدلهم على البديل الجاهز الذي قام بتأمينه لمستشفى كان يخدم لأكثر من ثلاثين عاماً ما لا يقل عن (500,000) نسمة. وسواء أغلق المستشفى لأسباب مالية أو لأية أسباب أخرى لا نعرفها إلا أننا نعرف جيداً أنه كان واحداً من أفضل المستشفيات في جدة بطاقمه المميز من الأطباء والممرضين الذين تمكنوا من بناء علاقات متينة من الثقة المتبادلة مع المرضى والسكان. ولنفترض جدلا أن الأسباب الحقيقية في إغلاق المستشفى تعود إلى الأسباب المالية المعلنة، فهل يشكل هذا مبرراً كافياً لإغلاقه. وهل تدنينا للتعامل مع المستشفيات الأهلية تعاملنا مع المؤسسات والمحال التجارية فنطبق عليها معايير الإغلاق والإفلاس وكافة المترتبات القانونية والنظامية التي تطبق على تلك المؤسسات؟ إن إغلاق مستشفى لا يشبهه سوى إغلاق جامعة أو مدرسة بكل ما يحمله مثل هذا الفعل من ضيق في الأفق وعدم إحساس بالمسؤولية تجاه المستفيدين من المواطنين وهم فئة ضعيفة محتاجة للرحمة قبل فرض الأنظمة والقوانين. وإذا كان مالك المستشفى ظالماً كما وصفه أحد الأطباء في التقرير الذي نشرته «عكاظ» أو مستهتراً أو فيه ما فيه، فهل الحل الأمثل الذي نراه في مثل هذه الحالة هو الحل الأقصى المتمثل في الإغلاق والإزالة دون التفكير في مصلحة المواطنين ودون تجهيز البدائل اللازمة؟ مالك المستشفى لن يخسر شيئاً فبإمكانه أن يبيع مستشفاه بعشرات الملايين ويسدد بجزء ضئيل منها حقوق العاملين المتراكمة وينتقل إلى أعمال أكثر ربحية أو حتى يهاجر، ولكن المواطنين الذين خسروا خدمات هذه المجموعة التي يعرفونها من الأطباء وهذا المستشفى الذي اعتادوا عليه لعشرات السنين هم الخاسر الأكبر والأول والأخير. أعلم أن الشؤون الصحية في جدة طبقت على المستشفى المغلق الأنظمة واللوائح المعمول بها في مثل هذه الحالات، وأعلم أن فرع العمل والعمال لم يجانب الصواب في حماية حقوق الأطباء والعاملين، ولكن الجهة الوحيدة التي راعت في تعاملها مع هذه القضية نواحي إنسانية ورحمة وعقلانية متميزة كانت هي إمارة منطقة مكةالمكرمة التي خيرت الأطباء والعاملين في المستشفى بين البقاء وتسهيل نقل كفالاتهم إلى أي مستشفى أو مؤسسة طبية يرغبون العمل فيها أو استلام حقوقهم كاملة قبل المغادرة معززين مكرمين إلى بلادهم، وآمل أن يختاروا البقاء؛ لأنهم من أروع وأفضل الأطباء والاستشاريين في جدة، ولأن في مغادرتهم خسارة كبيرة ومزيدا من الازدحام في المستشفيات الأخرى. لقد فتحت مجريات هذه القضية أعيننا ونبهت حواسنا إلى أن ترخيص بناء مستشفى أهلي من وزارة الصحة لا يختلف عن ترخيص مؤسسة تجارية فردية بكل ما يحمله ذلك الترخيص من تبعات تصل حد الإفلاس والإغلاق. لقد كان الأجدى بوزارة الصحة وهي الوزارة التي تقدم الخدمة الأهم للمواطنين أن تضمن في شروط منح تراخيصها بنوداً تحمي المواطن من التعرض لمثل هذا الأذى الناتج عن التوقف المفاجئ لخدمة صحية وعلاجية اعتاد عليها خاصة أنها كانت في متناول ذوي الدخل المتوسط والقليل إذا ما قورنت بأقرب المستشفيات الأهلية الأخرى. إن ما أعرضه على معالي وزير الصحة وآمل أن يجد لديه قبولا من خلال هذه المقالة هو أن تعاد صياغة أنظمة ولوائح الترخيص الطبي للمستشفيات والمراكز الطبية الأهلية لتتيح للوزارة إمكانية التدخل لإدارة المستشفى أو المركز المتعثر مالياً أو فنياً بشكل مباشر لفترة زمنية محددة لا تزيد على ثلاثة أشهر على أن تسدد نفقات الإدارة من خلال التشغيل الذاتي للمستشفى، وفي حالة عجز المالك عن تدبر أموره وتسديد ديونه أو تصحيح أخطائه ليس أمامه سوى القبول ببيع المستشفى أو المركز في المزاد العلني لمن يقبل تسديد الديون وتصحيح الأخطاء دون أن يغلق المستشفى أو أي قسم من أقسامه وغرف عملياته حتى ليوم واحد. وبعد فترة من الإشراف المباشر للوزارة على انتقال الملكية والتأكد من سلامة الأداء في ظل الإدارة الجديدة يتم تسليم الإدارة للملاك الجدد على أن يظلوا تحت الرقابة غير المباشرة المدفوعة التكاليف لفترة أخرى. وآمل أن يأمر الوزير بإجراء دراسة متكاملة لهذا المقترح فلعله يجد فيه الحل الأرخص والأمثل في مثل هذه الحالات؛ لأن إغلاق مستشفى وتدافع مرضاه على مستشفيات أخرى حكومية كانت أو أهلية سيؤدي بالتأكيد إلى مزيد من التزاحم والتردي في الخدمات الطبية ويحمل الخزانة العامة للدولة تكاليف مالية واجتماعية أكثر بكثير من الأخذ بحل كالذي أقترحه أو حل أكثر تطوراً منه من خلال الدراسات العلمية المحايدة. [email protected] للتواصل أرسل رسالة نصية sms إلى 88548 الاتصالات أو 636250 موبايلي أو 737701 زين تبدأ بالرمز 130 مسافة ثم الرسالة