على جسد صباح متثائب توجهت بسيارتي إلى الجامعة التي حصلت منها على درجة ما قبل الدراسات العليا، وذلك تلبية لدعوة عميدة الكلية والتي هي أحد الخريجات، وبمناسبة انقضاء ثلاثين عاما على تخرجنا.. كان الجو ليس صحوا تماما.. وليس شديد القيظ تماما.. لم ألتفت للنشرة الجوية فالأرصاد الجوية حتى هنا في (كانسس ستي) لم تعد تتنبأ تماما لأن المناخ العالمي بشكل عام لم يعد تماما!! قلت لنفسي وأنا أتأهب لهذه الدعوة فلنسرق معا ما استطعنا من الوقت الباقي في الحياة فقد أصبحنا على مرمى سفر اللاعودة! كان الصباح يبعثر كبرياءه مرتبكا.. كانت فروع الشجر تتمايل مع الهواء، كنت أشاهد ذلك من خلف الزجاج الغامق يشتد الهواء فيشتد تمايلها ويهدأ قليلا فتهدأ.. بدأت المجموعة تتوافد على القاعة.. كان الجميع يحملون السنون على أكتافهم والبياض على رؤوسهم.. يسيرون حيث الأيام ساعات والساعات ثوان كنت فرحا بهذا التجمع، فهذا اللقاء عودة لزهر البدايات.. والتقنيا كما كنا اتفقنا مع العميدة والتي بذلت مجهودا جبارا لتجميعنا من ولايات ودول مختلفة.. كان لقاء فياضا بالشجون.. طاشت الإجابات في كل اتجاه لشتى الأسئلة.. وانفرجت الذكريات كل فتح الباب وتسلل إلى مبنى! كنا نجيل البصر حولنا مدققين بحرص متناه يبحث كل منا بتمحص وتفحص في البطاقات التي حملت أسماءنا فوق صدورنا، فالزمان غير ملامح كل منا وتمكن بإتقان ووفاء من تغيير ملامحنا وخفف من بريق جمال ووسامة الكثير منا.. كان الواقع يضحك ملء شدقيه، فمن كان مفتول العضلات أصبح جسمه مترهلا تتدلى كرشه من قميصه ببروز واضح وتقوس ظهره ومن كان يمشي بمرح أكثر من عادي تباطأت خطواته بل وصار يسند خطواته العرجاء بعكازه.. ومن كان فصيحا أصبح الصمت يخنقه.. ومن كان غزير الشعر أصبح لا يملك إلا القليل منه.. أما تلك الحسناء الفاتنة والتي كانت تعج بفوران الصبا والتي كانت لها ابتسامة فرح يطغى وهجها على الآخرين فتنقل لهم العدوى أصبحت (جدة) يترجرج فمها مثل رقاص ساعة حائطية وحتى مكياجها الصباحي عجز عن إخفاء بصمات الزمن.. كانت الذكريات تتزاحم في رؤوسنا وكنا نحمل أرواقا تحمل تواريخ عتيقة.. وأخذنا نثرثر على ضفاف العمر ونسترجع الذكريات المعلقة على أستار الزمن.. كانت الذكريات تنتقل بيننا كأرجوحة في انكسار الريح وتسطع مثل الحلم في النوم.. كان منا من يوقظ الذاكرة بنكتة ساخرة وموقف طريف وكان هناك من يستعرض حياته بعد التخرج ودمعة عزيزة ترافق حديثه، فهناك من فقد الشريك والحبيب وهناك من فقد العمل والأمل وهناك من عاش حياة جافة مثل عود الحطب لا زوجة ولا ولد ولا حفيد وهناك من شاخت مشاعره واختلطت أيامه حيث تنكرت له الأحلام (فمؤلم أن تبني حلما فيسقط عليك) وهناك من هده المرض وأصبح لا يطمح من الحياة سوى إلى قبر تأوي إليه عظامه.. كان هناك من يلوك عسل الذكريات وآخرون يندبون مرارة الواقع.. كان هناك من ظل سارحا طوال الوقت ينظر في البعيد جامد الملامح رغم أنه كان إنسانا اجتماعيا بشوشا مرحا، حيث أصابته أمراض مزمنة (والمرض يغير الطباع) كان هناك من هو صامت يبتسم بنصف ابتسامة ونصف خيبة، وآخرون كانوا مرتفعي الصوت كطائرة الهليكوبتر ضجيجهم أكثر من سرعتهم.. واستمررنا نطوي في أحاديثنا أياما لنكتشف في نهايتها أن العمر قلب دفترا كاملا وليس صفحة سقط منه زملاء كثيرون.. زملاء غابوا تماما ليس عن هذا التجمع بل عن كامل الحياة منهم من مات ميتة ربه وآخرون قتلوا في حروب (بوش) الذميمة وهذه سنة قطار العمر في مشواره السريع اللاهث حيث يتركنا في الرحلة.. أقارب وأصحاب وأحباب والبعض نفارقه.. إنه قانون السفر! لقاء ثم صحبة ثم فراق يعقبها وحدة.. ووطن ثم غربة ثم تصبح الغربة وطن.. أقرب الناس يصبحون بعد محطة أو أكثر أبعد الناس! وجوه تلوح وأخرى تروح والقطار يمضي في الطريق المرسوم ولا يبالي! وانتهى التجمع. عبر كما يعبر النغم قصب الريح في خاطر العازف ثم يزول. كان كل منا يودع الآخر ويهديه عنوانه وأرقام هواتفه وحتى لا تتراخى عرى العلاقة مثلما تراخت أجسادنا.. وتركت اللقاء أحسست براحة نفسية هائلة كأنني رميت ورائي الزمن كله أخذت أردد (الحمد لله) نعم (الحمد لله) فقد جعلني ذلك اللقاء ممتنا لخالقي أكثر.. كنت أنظر حولي وأقارن وضعي الصحي والاقتصادي والأسري ولأكاديمي والعملي بزملائي الآخرين وأكرر (الحمد لله) معددا هبات الباري والتي منحني إياها بسخاء طوال هذا العمر.. الحمد لله جملة بليغة نقولها جميعا ويدرك القليل منا عمقها.. لابد أن نتعلم الامتنان بل ونعلم أبناءنا فن الامتنان وتقدير قيمة ما نملك.. لابد أن لا نأخذ الأشياء على أنها مسلم بها.. لقد أثبت علم النفس الإيجابي أن الأشخاص الذين يشعرون بالامتنان هم أكثر سعادة وأقل توترا واكتئابا بل وأن هذا الشعور يساعد الفرد أن يتوافق مع محيطه ويتواءم معه.. لكم أشكرك يا ربي على ما أنا فيه.. أشكرك على نعمة القناعة والإيمان.. أشكرك على كل ليلة حالكة أوجدت لي فيها نافذة مفتوحة.. نافذة مضاءة.. لكم أنت كريم يارب. للتواصل أرسل رسالة نصية sms إلى 88548 الاتصالات أو 636250 موبايلي أو 737701 زين تبدأ بالرمز 134 مسافة ثم الرسالة