طفلا كنت، أفتح باب الشارع، أطل برأسي فلا أرى منهم أحدا، أخطو إلى الشارع خطوتين، ألتفت ذات اليمين وذات اليسار، وحين لا أرى منهم أحدا أنكفئ إلى البيت حزينا، تسألني أمي، أقول لها إني لم أجد أحدا في الشارع، وحين تسمع أصوات أطفال يلعبون تعرف عندها من عنيت، تهتف بي: يعني ما في أحد غيرهم؟ أختصر الجواب: لا، ثم أغرق في الكآبة. أولئك الساكنون غرف القلب السرية حيث لا تزال الطفولة مولعة بدنيا تتفتح عليها أعيننا شارعا شارعا وبيتا بيتا ومدرسة مدرسة، أولئك الساكنون حيث أودعنا أيامنا الأولى، نعود إليها كلما عدنا إليهم، نعود أطفالا لا يعلق بأرداننا غير طين الأرض وفرح البهجة بالحياة، أولئك الذين يعمرون جوانب القلب حين يرحلون يحملون معهم عمرا عشناه معا، يحملون معهم شطرا من القلب والفرح ويتركوننا وراءهم لا نكاد حين ندير أعيننا فيمن حولنا أن نعرف منهم أحدا. كنا ننفض عن أيدينا غبار قبر زكي يوم أن مال علي سليمان وهمس: والله مشكلة، وقبل أن أسأله عن تلك المشكلة، قال: لو مات الواحد منا في الأول معناها مات صغيرا ما شبع من الدنيا، ولو تقدم في العمر معناها يموت وحده وما يلقى واحدا من أصحابه يمشي في جنازته أو يبكي عليه. ولم ينتظر سليمان طويلا، لم يتأخر ، كأنما خشي أن يموت فلا يبكي عليه ممن ركضوا معه في شارع الحي أحد، لا يمشي وراء جنازته ممن وقف معه في طابور المدرسة الابتدائية أحد، لا يصلي عليه ممن تعلم الصلاة معه أحد، كأنما اختار أن يسبقنا جميعا تاركا لنا سؤالا قاتلا: من سيبكي علينا من أصدقاء إن أعجبتنا بعده الدنيا وأطلنا المكوث فيها؟ من سيمشى في جنائزنا ممن تعلمنا معهم كيف نمشي؟ أعود من قبر سليمان وحيدا كما عدت من قبر زكي وحامد، أوشك أن أفتح باب الدنيا فلا أرى أحدا، أخطو خطوتين فلا أرى أحدا، أنكفئ إلى البيت وأغلق الباب، غير أني لا أجد صدر أم يحتوي حزني، لا أجد أحدا يسألني كي أقول له: لم يعد أحد في الدنيا. [email protected]