القاعدة الفقهية أو لنقل العقدية تؤكد أن من استحل محرماً مقطوعاً بحرمته فهو كافر. هذه قاعدة نظرية تبدو للوهلة الأولى سهلة التطبيق. إلا أنها ليست كذلك. فما هو محرم دلالة، قد لا يكون محرما ثبوتا، والعكس صحيح. ومعظم المحرمات التي يتحقق فيها شرط قطعية الدلالة والثبوت هي المحرمات الكبرى المعروفة والمجمع عليها من كافة المسلمين، كالزنا والسرقة واللواط وشرب الخمر حد الإسكار وما أشبه. بيد أن معظم «المحرمات» التي يفاصل عليها الخطاب الديني المعاصر، المحلي منه بالذات، هي «محرمات» تفتقد إلى أحد الشرطين: قطعية الدلالة أو قطعية الثبوت، هذا إن لم تفتقد الشرطين معا. هذا من ناحية، ومن ناحية أخرى، فهناك محرمات مقصودة بذاتها. كالمحرمات التي مرت بنا آنفا، بينما هناك محرمات، لا لذاتها، بل لما يمكن أن تفضي إليه من محرم لذاته، كالخلوة بين الرجل والمرأة، التي قد تفضي إلى محرم كالزنا. ولا يجوز تكفير مسلم ما لم يستحل محرماً مقطوعاً بحرمته دلالة وثبوتا. لكن ثمة قيد مقيد. وهو أن التكفير لا يجوز إيقاعه بحق من أنكر معلوماً من الدين بالضرورة (كاستحلال ما هو محرم بقطعية الدلالة والثبوت) إلا إذا تم التأكد من أن هذا الإنسان ينكر ما أنكره وهو يعرف قطعية تحريمه (معلوم له بالضرورة). ولكن هذا المعلوم من الدين بالضرورة يتنازعه سؤال استشكالي هو: هل الضرورة هنا ضرورة عقلية أو معرفية؟ ولا يمكن أن تكون الضرورة هنا عقلية، لأن العقل صفحة بيضاء تملؤها الحدوس والمعرفة المتلقاة. ولأنها لو كانت ضرورة عقلية لما كان ثمة حاجة أو غاية من إرسال الرسل للبشر ليبينوا لهم ما يجب معرفته من الدين بالضرورة. وأيضاً فليست الضرورة هنا ضرورة معرفية، إذ المعرفة الضرورية هنا نسبية بنسبية مدارك الإنسان ومعارفه. فما هو معلوم بالضرورة لإنسان ما، قد لا يكون معلوما لإنسان آخر يعيش في فلاة من الأرض. ولهذا السبب، فإن بعض الفقهاء، وأظن أن من بينهم ابن تيمية، قد حصروا ما هو معلوم من الدين بالضرورة بمعرفة الله وكتبه ورسله واليوم الآخر وملائكته. أما عن سؤال: من له الحق في إصدار هذين الحكمين (التكفير والاستحلال)، فقد توضحه ما تنطوي عليه موانع التكفير وشروطه من قيود. فمن موانع التكفير التأويل. ويعني أن من تلفظ بألفاظ كفرية لم يكن يقصدها بذاتها بقدر ما كان متأولاً فيما ذهب إليه. والسؤال هنا: من له حق إجبار الشخص المتأول على توضيح مراده من أقواله الكفرية، ثم تصحيح تأويلاته بعد ذلك. أو تكفيره إن أصر عليها؟ الجواب: لا يمكن إجبار الشخص إلا من قبل سلطة لها حق الإجبار، كحق متفرع من حق احتكار العنف الشرعي. وهذه السلطة منوطة حتماً بالدولة. وهنا نصل إلى جواب السؤال وهو أنه لا يجوز تكفير المتفوه بأقوال كفرية معلوم كفريتها بقطعية الدلالة والثبوت إلا بسماع أقوال الشخص وتوضيح خطأ ما تأول به وتوثيق إصراره على كفرياته. وهذا الحق مملوك حصراً للدولة مما يتضح معه أن الدولة ممثلة بالجهاز القضائي هي المخولة بالحكم على كفر الأعيان من عدمه. وأي تكفير خارج مظلة الدولة يعتبر تعدياً على أخص خصوصيات الدولة: احتكار العنف.؟.