قبل نحو سبع سنوات كنت ضمن وفد رسمي سعودي في زيارة لإيطاليا، التقينا خلالها برئيس وزراء إيطاليا (برليسكوني)، الذي تحدث إلينا مزهوا عن البيوت الأثرية التاريخية القديمة في مدينة روما ووصفها بأكبر متحف أثري مفتوح في العالم ودعانا بحرص شديد وفخر كبير لزيارتها. وخلال زيارتنا لها عادت بي الذاكرة إلى البيوت الأثرية التاريخية التي تحفل بها المنطقة التاريخية في مدينة جدة، والتي تمتلك مقومات أثرية تاريخية تستدعي الاعتزاز، وتجسد حقيقة أن المملكة غنية بتاريخها وآثارها كونها شهدات حضارات العالم وتجارتها على مدى التاريخ .. ولكن يظل الفرق في الاهتمام والاحتفاء بها. وعلى مدى السنوات الماضية شاركت في استقبال وفود وشخصيات أمريكية وأوروبية زائرة لمدينة جدة، وكنا نعد لهم برامج زيارة لمعالم مدينة جدة المختلفة ومن بينها المنطقة التاريخية. ويتبين لنا أنه لا يشد اهتمامهم وينتزع إعجابهم موقع أكثر من المنطقة التاريخية، وهي في ذات الوقت تجسد لهم وعلى الطبيعة أننا أمة لنا حضارة ولنا تاريخ، وهذا ما يؤكد أن هذه المنطقة من الممكن أن تكون وجهة سياحية مثلى. إن المنطقة التاريخية في جدة هي متحف تاريخي أثري مفتوح يتضمن كنوزا تاريخية ومعالم أثرية وأشكالا معمارية عالية القيمة، تمثل نموذجا فريدا في العمارة بنظامها البنائي وشكلها الهندسي واستغلالها الأمثل للطبيعة المناخية، والذي يعكس منظومة النظام الاجتماعي والثقافي والبيئي والاقتصادي القديم. إنها شواهد ماثلة على تاريخ عريق مديد، بل هي ذاكرة المجتمع الحافلة بالمواقف والأحداث والعطاء الإنساني التليد. وبناء على القيمة التاريخية الأثرية الكبيرة لهذه المنطقة صنفت منذ ثلاثين عاما مضت وبالتحديد في العام 1980م على أنها منطقة تاريخية وفق المعايير الدولية. يقول الأمير سلطان بن سلمان الرئيس العام لهيئة السياحة والآثار إن المنطقة التاريخية في جدة هي المنطقة الوحيدة المتبقية في العالم العربي متكاملة العناصر على البحر التي تعكس التراث العمراني الإسلامي. ويقول سموه: إن المنطقة تمثل موقعا تاريخيا وثقافيا واقتصاديا عالي القيمة. ولقد شهدت المنطقة التاريخية اهتماما وعناية في عهد المهندس محمد سعيد فارسي عندما كان رئيسا لبلدية جدة، إلا أنها بعد ذلك لم تحظ بالاهتمام الذي يتناسب مع قيمتها التراثية وأهميتها التاريخية والسياحية الكبرى، بل على العكس من ذلك عانت من الإهمال المهدر لقيمتها التاريخية. يقول الأمير سلطان بن سلمان : «إن ما آلت إليه المنطقة التاريخية في جدة أمر لا يسر أحدا ولو كان الأمر بيدي لأغلقتها حفاظا عليها من الأخطار التي كان آخرها حادثة الحريق التي أتلفت بعض المنازل ذات القيمة التراثية العالية». ولقد أسعدنا قيام محافظ جدة ورئيس الهيئة العامة للسياحة والآثار بزيارة للمنطقة التاريخية في يوم الثالث والعشرين من ربيع الأول الماضي 1431ه عقب الحريق الذي قوض أركان عدد من المنازل التاريخية. وأعجبني قول الأمير سلطان بن سلمان: إن منطقة جدة التاريخية تحتضر ولكن لن نتركها تموت بين أيدينا بل سنقوم بحمايتها بكل ما أوتينا من قوة» .. فلقد أشرع قوله هذا أبواب الأمل لدي أهالي جدة. وفي إطار الحديث عن الحلول لوضع المنطقة التاريخية لا بد أن نكون واقعيين وعادلين فالبيوت هي أملاك ناس معظمهم يقومون بتأجيرها للاستفادة من دخلها .. وهذا من حقهم شرعا ونظاما .. والقلة ما زالوا يسكنونها. ولا بد أيضا من التسليم بأن معظمها انتهى عمرها الافتراضي بعد مرور مئات السنين عليها .. وتبعا هناك حاجة إلى معالجة معمارية تضمن المحافظة عليها وتقوية أسسها وقواعدها حماية لها من الانهيار. والحل إذن يتمثل في خطة متكاملة تتضمن نزع ملكيات هذه البيوت بصورة تدريجية وتعويض أصحابها تعويضا عادلا. وفي ذات الوقت الاستفادة من قرار مجلس الوزراء القاضي بتقديم قروض لملاك المباني التاريخية لإنشاء قرى سياحية ومتاحف وغيرها. وقد يكون من المناسب أن يسلم أمر المنطقة التاريخية إلى الهيئة العامة للسياحة والآثار، حيث إن الاهتمام بها هو من صميم مهمات الهيئة، فهي منطقة أثرية وهي في ذات الوقت وجهة سياحية مثلى فيما لو تم تنظيمها، ولدى الهيئة برامج متطورة في هذا المجال.