أعول كثيرا على الروائيين في صناعة المستقبل، وذلك من خلال النوافذ التي يفتحها لنا خيالهم لرؤية عالم جديد، مليء بالمبتكرات وطرائف الوجود، إذ يمكن للروائي أن يرتب عالمنا الجديد، وينسق أثاثه، ويفترض لنا ما نحتاجه، بل ويهيئنا حين يزودنا بمعطيات جديدة تتناسب مع العالم القادم واختراعاته غير المتوقعة، ومن الممكن، أيضا، أن يتصور حجم هذه الاكتشافات التكنولوجية، هذا إن لم يكن أحد مكتشفيها عن طريق التجليات التي يحلق بها في فضاء الخيال المفتوح، المزدحم بأدوات المستقبل غير المرئية، والتي لا يمكن الوصول إلى أرضها بقدم عابرة، أو بمركبة طائرة، وإنما الوسيلة الوحيدة لاختراق حجبه هذه (الطاقة) من التخيل، والقدرة على إدارة بوصلة العقل من الواقع إلى الخيال. يذكر الدكتور نبيل علي في كتابه المثمر (الثقافة العربية وعصر المعلومات) أن الكونجرس الأمريكي دعا كاتبا (للخيال العلمي) ليحاضره في مستقبل صناعة المعلومات في إطار قيامه بوضع سياسة جديدة في نظم الاتصالات، كما فعل ذلك الكنيست الإسرائيلي حين دعا أحمد زويل ليحاضره عن ثمرة خياله العلمي بعد أن سحق الزمن إلى وحدة الفيمتو ثانية. والأمر عندي لا يقتصر، فحسب، على ما ينتجه الخيال من ثراء تقني علمي، بل قد يشق لنا الخيال طرقا جديدة في شتى مجالات المعرفة، فمن الممكن أن يقوم بوضع خرائط لمدن حديثة، أو نكتشف من خلاله أنماطا جديدة من سبل العيش الكريم الذي لا تنغصه ضرائب الشركات والمؤسسات التجارية، وقد يعطينا الخيال تصورات لحلول المشكلات الكبرى في حياتنا، كمشكلتنا المعقدة مع نظام البلدية الأزلي، وأعني بها مشكلة لعبة المتاهة بين البلدية والمحكمة من أجل الحصول على الصك المفقود. ليس مستغربا أن ينفذ الخيال إلى أبعد من ذلك، فهو هبة ربانية، ونعمة معطلة، ولا سيما في العالم العربي، وهو عندي نظير الرؤيا المنامية، فكما أن الرائي يستطيع رؤية شيء من المستقبل من خلال فك رموز رؤياه، فكذلك الخيال في اليقظة، إذ يمكن بفعل التخيل الاستشرافي أن يستشرف المبدع أرضا جديدة ينيخ عليها ركائب مستقبله، وذلك بعد أن يعمر هذه الأرض بكل ما هو جديد وطريف، وهو نوع من التوقع لا علاقة له بكشف حجب الغيب، وإنما علاقته كامنة بين الحاضر والمستقبل، بحيث يكون الحاضر مستندا للرؤية والتوقع. من هنا أرى أن طاقات الروائيين المعطلة، أو المهدرة في تخيل المشاهد المستهلكة، هي المعنية بصناعة المستقبل، وذلك لا يكون إلا بعد تفعيل طاقة الخيال الكامنة، وفتح آفاق أرحب للركض في عوالم جديدة، غير عوالمهم المراهقة، تلك التي لا تغادر جدران الأزقة المهجورة، أو تنزوي على استحياء خلف أبواب دورات المياه المدرسية. كما أن ذلك مرهون أيضا بالالتفات إلى المنتج الخيالي وعدم التعامل معه بأدوات الفن فقط، فالشاعر، أو الأديب قد يصنع لنا صورة من خياله، وهو في غمرة اللاوعي، وربما كانت غايته إمتاعية، دون أن يفطن إلى أن هذه الصورة تحمل في أحشائها نطفة مستقبل، سيتشكل فيما بعد فيصبح عالما من الواقع الجميل، وهنا تحضرني مقالة للصديق الناقد الصحافي عبد الرحمن المطيري، كتبها قبل أربعة أعوام تقريبا، ذكر فيها ببصيرة نافذة أن المتنبي اكتشف كروية الأرض بخياله قبل غاليلو، وذلك في بيت من إحدى قصائده العظام التي وضع فيها رؤيته للمجد، وكأنه يخاطب أكثر الروائيين العرب الذين يرون المجد (زقا وقينة)، يقول بيته: يخدن بنا في جوزه وكأننا / على كرة أو أرضه معنا سفر. ومعنى يخدن أي يسرعن، يعني بذلك أن ركابهم المسافرة في وسط الصحراء تسير في أرض مرهقة، طويلة، وهم في وسطها كأنهم يسيرون على كرة. أو أن الأرض مسافرة معهم، وفي هذه الصورة البديعة لم ينص المتنبي على كروية الأرض فقط، بل وعلى حركتها أيضا، فكون الأرض مسافرة معهم يعني أنها تدور بهم فلا يصلون إلى طرف. لكن هل كان المتنبي يعي هذه الحقيقة العلمية؟ بالطبع لا، غير أن هذا لا يعفي من بعده من اصطياد مثل هذه الشوارد العلمية من خلال دقة الملاحظة وإعادة النظر فيما ينتجه الخيال بشقيه العلمي والأدبي. ولعلي هنا أختم هذه المقالة برسالة نصية وصلتني من الصديق منيف الحربي، كان لها الأثر في إنتاج هذه المقالة، وذات علاقة بالعنوان أعلاه. الرسالة عبارة عن قول لجون ماسفيلد يقول فيه «يتكون الإنسان من جسد وعقل وخيال. جسده كثير النقائض، كما أن عقله غير جدير بالثقة، ولكن خياله هو الذي يجعله مؤثرا واستثنائيا». سعود الصاعدي