بولندي دام في غيبوبته 19 سنة نتيجة حادث أليم وقع له حين صدمه قطار ليصيبه بورم في الدماغ، مما أدى إلى أن يكون في إجازة مفتوحة من الحياة بلا تاريخ رجعة محدد!! والرجل ذو ال 68 عاما اليوم يعود من جديد بعد أن أراد الله له الحياة، يقبل الآن يد زوجته التي اعتنت به طيلة فترة الغياب، حيث كانت تطعمه وتسقيه، وتغير وضعيته أثناء فترة الغيبوبة الطويلة خشية أن يصاب بقرح الفراش، وحين سئلت عن السر فأجابت: كنت على يقين أن رب السماء سيعينني، فقد أردنا الحياة رغم عجلات القطار المخيفة!! فما بالكم بمن دامت غيبوبته خمسين سنة وقد دهسه قطار المحسوبيات والرشاوى والمصلحة الشخصية.. بل ولم يكن له نصير ولم يصبر عليه ويحتويه قلب دافئ على غرار تلك المخلصة الوفية!! ومحمود رجل بتاع كله... هو نوع آخر من القطارات التي تدهس بعضنا وترغم البعض الآخر أن يصعد على متنها، باختلاف أشكالها وأنواعها سواء كانت بخارية أو كهربائية أو عصرية، تبقى قاتلة.. هو ذلك النوع، الذي يقنعك أن الحياة بدونه مستحيلة، وأن وصول الهدف لن يكون إلا إذا استقللت مقطورته البخارية القديمة، فتجد نفسك تستسلم لسيلٍ من الحتميات التي تفرضها عليك الظروف والحاجة متنازلا عن مبادئك مرددا.. الحياة تسير والموت مع الجماعة رحمة!! ومحمود الشهم أبو عيون جريئة، له ملامح غريبة، فهو نموذج للوجه المشدوه، وقد وقف في منتصف السلم فلا عرف كيف أن يرتقي ليصل للقب لص مع مرتبة الشرف، ولم يقدر أن ينزل إلى القاع خوفا من أن تسحقه طاحونة الحياة المريرة، ورغم ذلك التيه إلا أن ملامح الفخر والزهو لا تزالان ترتسمان على ملامحه البالية، في صورة رثة لمخرجات مجتمع سقيم، معتل المعاني!! كم منا لازال يدهسه قطار محمود في تعاملاته؟!! كم منا بقي في غيبوبته سنين طويلة بلا قلب حان يشبه قلب الزوجة البولندية المخلصة.. كم من الوجوه دهستها قطارات الحياة واستسلمت للموت قبل أن تحين ساعة الأجل بعد أن مات الأمل وانقطع الرجاء.. كم من أناس أسقطتهم الدنيا من حساباتها فجأة، ليبقوا وحيدين بلا رفقاء درب أو قلب حقيقي يتلقفهم ويحميهم من عثرات الزمن الفجائية! منذ ثلاثين سنة ونحن نواجه ظاهرة محمود التي تنتشر كل يوم ونحن نتساهل معها أكثر وأكثر .. هي الندبة التي تحيل جمال الإنجاز إلى دمار.. هو رمز الفساد الذي قال عنه «لي كوان يو» مؤسس سنغافورة الحديثة سنة 1960 حين بات يهدد ميلاد الدولة الجديدة.. (براعة البشر لا حدود لها عندما يتعلق الأمر بترجمة السلطة وحرية التصرف إلى مكاسب شخصية)!! في الوقت الذي كان فيه جهاز الشرطة يرتشي، وجهاز الموانئ والجمارك يرتشي، وبلدية المدينة ترفض إصدار التصاريح إلى أن يتم دفع المعلوم... ابتزاز مال على كل الأصعدة، ومن لا يدفع لا يعيش.. لذا كان يجب أن يكون هناك وقفة، وإلا مات الحلم الوليد، لكن سنغافورة بقيت وما ماتت، بل وصعدت للقمة!! محمود هو القطار الذي يجب أن لا نتركه يدهسنا ولو كانت كل الدنيا تمضي معه.. يبقى هناك محطات نظيفة تمتلئ بها الحياة.. علينا أن نجد البديل ولا نستسلم للطوفان.. علينا أن نمهد الطريق الجديد.. محمود هي ظاهرة الفساد، آفة العصر مهما اختلفت الأسماء وتغيرت الخرائط وتبدل المناخ.. هي الدودة التي لا تعترف بالمواسم، فتزدهر صيفا وتتكاثر شتاء وتهرول خريفا وربيعا على جنبات الطريق فتنخر في الجسد الحي، محيلة خطط التنمية إلى رفات!!. في قصة السيد بوب غرازيبسكي البولندي عامل السكة الحديدية البسيط ورحلة العودة من الموت إلى الحياة استمرت سنينا طويلة، دروس وعبر، ورفيقة ملائكية كانت البطلة الحقيقية في تلك الملحمة.. يبقى الأمل دائما مادامت عيون الطيبين تحاوطنا، ومادام الحلم حيا فينا، تحوطها رغبتنا في الحياة التي تفوق عجلات القطار إصرارا وإيمانا وصلابة.. فقط عدلوا البوصلة إلى وجهة واحدة.. صوب وطنٍ راق، نظيف خال من أسلحة الدمار الشامل وملحقاتها.. اطلبوا الحياة وستآتيكم رغم علامات الغيبوبة القاتلة. دمتم ودام الوطن بخير بلا محمود وشلته النبيلة!!.