انتظرت حتى يفرغ الأصدقاء والمحبون من كلماتهم في رثاء أخي محمد لأكتب ما لا يعرفه الجميع من طباع ومفارقات تخصه رحمه الله. لقد ضرب الصمت حوله بسياج مهيب ليفصله عن العالم الخارجي، فلم يعد يسمع زقزقة العصافير، ولا خرير المياه.. ولا حفيف الشجر، ولا مناغاة الأطفال بأصواتهم العذبة. حرم من ذلك.. ولكنه لم يحرم من الإنصات إلى داخله، فيطرب الدنيا بأنغام شاعريته المرهفة، ليغرد بألحان جميلة، فيبث عواطفه وخلجاته في شعره السلس الرائع الذي يتغنى به كثير من الشعراء. لم يحمل شهادة الماجستير ولا الدكتوراه، فالشعر موهبة لا تحتاج إلى هذه المؤهلات. ورث هذه الشاعرية عن أمنا رحمها الله، التي كانت تحفظ مئات القصائد من الشعر، وتحفظ المعلقات، وتحفظ قصيدة الأصمعي التي عجز الخليفة (المنصور) من ترديدها عندما كان يواجه الشعراء. الجدة العصامية وأمنا رحمها الله حفظتها عن أمها التي كانت تجيد القراءة والكتابة قبل مائة وثلاثين عاما. فرغم ما كان يكتنف ذلك العصر من عادات وتقاليد تمنع تعليم المرأة، إلا أن هذه الجدة العصامية (جدتنا من ناحية الأم)، كانت تحفظ الشعر وتساعد زوجها الذي كان يبيع العُقُل، وتساعده في استقطاب الصنائعية، وتشرف على إنتاجهم لتمويل الدكان بما يحتاجه من البضاعة، وذلك بتحضيرهم في غرفة إنتاج العقل في ليالي رمضان أو المواسم، وتشجعهم على الإنتاج بأن تقرأ عليهم روايات (عنترة بن شداد وأبو زيد الهلالي). أصيب أخي محمد في سن مبكرة من طفولته بحمى التيفوئيد، التي أفقدته سمعه، ولكنها لم تفقده ذكاءه، وإرادته، وعزمه على العمل، والتحصيل العلمي. لم يقتنع بأن يكون عضوا مهملا في الأسرة، فقد كان يأنف العطف ويستجيب للتعاطف، فشق طريقه في صناعة العُقُل، كما شق طريقه في تثقيف نفسه بالقراءة في كتب الأدب والشعر، ونظم القصائد والرباعيات، ونشر بعضها في الصحف المحلية. كان يرحمه الله حلو الحديث، خفيف الظل، حسن المعشر، سريع البديهة، رائع النكتة، يجيد السخرية بدون تجريح.. كله أدب. الإشارات الخفيفة كنا نجلس في طفولتنا الساعات الطوال في حديث ممتع، وكان يرحمه الله من ذكائه يفهم ما أقول من تحريك الشفاه، أو بعض الإشارات الخفيفة، دون الحاجة إلى أن أكتب له ما أريد. فقد كان يتمتع بذكاء وقاد، وكأنه لم يفقد سمعه، بل تعدى ذلك بأنه يستطيع أن يقلد أصوات الذين يكلمونه بقدرة عجيبة. وكان رحمه الله أنوفا شامخا في أخلاقه.. لا يقبل أي جميل من إنسان لا يستطيع أن يكافئه عليه. وعندما يريد أن يعمل جميلا في شخص ما، فإنه يتوارى بفعل ذلك الجميل، بحيث لا يشعره أنه تجمل عليه. أذكر أن أحدا من أقاربنا فتح دكانا صغيرا للبقالة، فكان يداوم بشراء حاجيات لا يحتاجها من هذه البقالة الصغيرة دون أن يشعره بأنه هو المشتري، وذلك تشجيعا له لنجاح دكانه. كان رحمه الله مدرسة في هذا النوع من التعامل. قوة الإرادة إن ما لا يعرفه الجميع عن أخي محمد، أنه كان في فترة من حياته قد توجه إلى دراسة الكتب النفسية، وتمرين قوة الإرادة. وله في ذلك نجاحات بالغة منها أنني كنت في دور النقاهة من عملية جراحية كبيرة، وكنت لا أشتهي الطعام، حتى هزل جسمي بشكل كبير. وقد احتار الأطباء في إعطائي جرعات لفتح الشهية، كما احتارت أم طلال في تقديم الوجبات التي كنت أشتهيها، فكنت أعزف عنها ولا أطيق رائحتها. حتى زارني أخي محمد يوما، وقال لي بلهجة آمرة: ينبغي عليك أن تأكل اليوم في الظهر شيئا من لحم الشواء. والغريب أنها تحولت نفسيتي، ونمت شهيتي، وجلست على المائدة في نفس اليوم، وأكلت كما لم آكل من قبل، وزال كل ذلك التقزز من الطعام وانقلبت إلى شهية، وانطلقت بعد ذلك إلى العشاء والفطور كعادتي.. شيء عجيب، ولكن ذلك حدث. رحم الله أخي محمد، فذلك جزء مما له علي من أفضال كثيرة، وعوضنا الله، وعوض أبناءه الذين أحسن تربيتهم، وقدمهم رجالا عصاميين في خدمة المجتمع والبلاد. أذكر من أشعاره ما كتبه عن دارنا التي كانت تضم عائلتنا تحت سقف واحد من عهد الطفولة إلى ريعان الشباب.. الرباعية التالية: «يا دارنا لم يعد منها وقد هدمت في عاصف من حديد صرحها همدا لم يبق منها لعيني بعدما اندثرت رسم يلوح ولا طيف ورجع صدى شأن المنازل أن تبقى وقاطنها يصير من قبلها بين الثرى بددا واليوم تسبقنا الدارات قائلة عزاؤكم.. عشتموا من بعدنا أمدا» رحمه الله رحمة واسعة وعوضنا فيه خيرا .. وجزى الله خيرا من كتب في حقه من الأصدقاء كلمات رثاء عبرت عن صدق مشاعرهم نحو الفقيد الغالي وأسرته.