طرق مسمعي اسم (عبد الله بن خميس) حينما كنت طالبًا في المرحلة الثانية المتوسطة في المعهد العلمي، وكانت قصيدته (بغداد) ضمن مقرر مادة النصوص في تلك المرحلة، وهي التي يقول في مطلعها: بغداد يا معقل الفصحى أحيِّيكِ طبتِ وطابت مدى الدنيا مغانيكِ وقد ظل اسمه يتردد على مسمعي بين فينة وأخرى عند الحديث عن الأدب السعودي، وقرأت له بعض القصائد التي أسرتني جزالتها، وحلقت بي في فضاء الأدب القديم. ظللت كذلك حتى أعلن عن ندوة للدكتور حسن الهويمل بعنوان: (الأدب الشعبي) في إثنينية الشيخ عثمان الصالح - رحمه الله - مذ عشر سنوات تزيد أو تقل قليلاً، فحرصت على حضورها، وتمّ لي ذلك - بحمد الله -، فرأيت بعض رجال الأدب والإعلام، الذين كنت أسمع بهم، وأقرأ لهم، ومن بينهم الشيخ عبد الله بن خميس - رحمه الله - فكان ذلك اللقاء الأول الذي التقيت به فيه. ومرت سنوات توارى فيها الشيخ لكبر سنه وعجزه، فلم يبحث الناس عنه إلا قليلٌ منهم، ولم تدعُهم ضمائرهم إلى (تقديره في استتاره)، وقد ذكر ابنه عبد العزيز ذلك في ليلة تكريمه الأخير من لدن النادي الأدبي في الرياض وصحيفة الجزيرة قبل ثلاثة أشهر تقريبًا، ووصفها ب (السنوات العجاف)، التي مرت بوالده وذاق منها مُرّ الجفاء. لا أنكر جهود بعض المهتمين بالشأن الثقافي والأدبي في الالتفات إلى أعلام الأدب في البلاد، وتكريمهم في حياتهم. فقد وجهت ثلوثية الدكتور محمد المشوح قبل عام ونصف تقريبًا دعوة عامة لتكريم الشيخ عبد الله بن خميس - رحمه الله -، فوجدتها فرصة أن أثنّي اللقاء به بعد إثنينية الشيخ عثمان الصالح - رحمه الله - ويسر الله لي حضور اللقاء، وكان لقاء ماتعًا علمت به ما كنت أجهله عن سيرة ابن خميس، أدركت آنذاك أني أمام (خميس) في المواجهات الأدبية، وأمام طود من أطواد الجزيرة العربية في علم الأماكن والتاريخ واللغة. كان الشيخ صامتاً والحاضرون يتحدثون، حتى ظننت أن الشيخ لا يعي كثيرًا مما يقولون؛ لكبر سنه، وضعف سمعه، إلى أن تحدث ابنه عصام - رحمه الله وغفر له -، وقام يستنطق والده، ويستنشده الأشعار، والوالد يتجاوب مع ابنه، وأشار عصام وقتئذ إلى إعجاب والده بقصيدة الأعشى في مدح النبي - صلى الله عليه وسلم - التي استهلها بقوله: ألم تغتمض عيناك ليلة أرمدا وعادك ما عاد السليمَ المسهّدا واستنشده إياها، فأنشدها الشيخ كما أنشد قصيدته هو في (جبل طويق) بصوت زادهما جمالاً وجلالاً إذا أنشد الشعرَ امرؤٌ مُتذوّقٌ له احترتَ في الحُسْنينِ أيُّهما السِّحْرُ ؟ طمعتُ بعد لقاء الثلوثية في أن أثلّث لقاءاتي بالشيخ - رحمه الله -، فحدثت ابنه عصامًا - رحمه الله -، فرحَّب بي. قمت بزيارة الشيخ ابن خميس - رحمه الله - في منزله بعد ذلك بأسبوعين بصحبة استاذي عبد العزيز بن صالح العسكر، وقد أخذت (الوصفة الجغرافية) من ابنه عصام، وحين دخلنا مجلسه بعد صلاة المغرب كان في المجلس رجلان مع الشيخ، وبعد أن سلمنا عليه استكمل حديثه مع أحدهما قائلاً: ألا تعرف (السُّهى)؟ قال الرجل: لا، فردّ ابن خميس قائلاً: هو نجم ضعيف في السماء لا يكاد يُرى. فانتهزتُ الفرصة لاستدرج الشيخ حتى يسير بنا في مسالك الأدب، فقلت: هو الذي قال فيه جميل بُثينة: (ومن بات طول الليل يرعى السهى سها) فأجاب: نعم، وصمت بعدها، ولم تفلح محاولتي في استدراجه للحديث. بعد جلسة دامت ساعة أو تزيد قليلاً خرجنا من مجلس الشيخ، وظللتُ أمنّي نفسي بزيارة أخرى له، حتى وأدت منيّته أمنيّتي. كلما تذكرتُ مقولة عبد العزيز ابن الفقيد الذي وصف فيها السنوات الأخيرة لوالده ب (العجاف)، وشكا فيها من جفاء بعض المحبين لوالده أسفتُ من طبعنا الذي لا يزيده رحيل الكبراء إلا رسوخًا في نفوسنا. فطالما اشتكينا من نسيان الأعلام الذين يواريهم المرض أو العجز، حتى إذا تهاوت قممهم، ودوى صوتها، أفزعنا ذلك الصوت، فقام بعضنا بتأبينهم، وربما رام أحدنا (مدح ذاته) فحاك حروفه في (رثاء الأعلام) سببًا إلى آماله فتعلق به، فيضم بهذا إلى (حشف) صلته بهم في حياتهم (سوء كيلته) لأقدارهم بعد مماتهم، وويلٌ ثم ويلٌ للمطففين. رحم الله الجمع المفرد عبد الله بن خميس ؛ فبفقده سنفقد شاعرًا وأديبًا ومؤرخًا وجغرافيًّا وصحفيًّا، فألهمنا الله صبرًا، وعوضنا في كل فنٍّ خيرًا. فهد بن علي العبودي