في الرابع من يناير 2010 افتتحت دبي أطول بناء شيده البشر على سطح الأرض على طول تاريخها الممتد ملايين السنين، افتتحته في حفلٍ بهيج قل فيه الكلام وتحدث الإنجاز، وكانت المفاجأة تغيير اسم البرج من برج دبي إلى برج الشيخ خليفة بن زايد، اعترافا بفضله وبوقوف أبوظبي بجانب دبي في الظروف الحالكة والأيام العصيبة. قيل عن دبي الكثير، مقالات نشرت، وكتب ألفت، وبرامج أنتجت، وأحاديث تلقى، ونقاشات تدور، وحوارات تستعر بالخلافات المتأرجحة بين التصديق وعدمه، بين الفخر والغيرة، بين الممكن والمستحيل. تلك هي دبي، المدينة التي عشتها وعشت فيها لأكثر من أربع سنوات خصبة بالتجربة والإنجاز والحرية، من أهم ميزاتها منح الفرصة للجميع للمنافسة والإبداع والتألق، فهي جنة الناجحين وملاذ المبدعين في كل مجال وأي تخصص. إنها تشبه مدينة الأحلام في الأساطير، وحلم النجاح للمبدعين، واستراحة المحارب للمتعبين من عناء المحاولات الفاشلة للحاق بركب الإبداع والنجاح والتميز. دبي مدينة لا كالمدن، واحة إبداعية، وربيع للمعرفة والتطور، تعطيها القليل فتمنحك الكثير، تضع فيها بذرة طموحة فتردها شجرة مثمرة غناء، إنها استثناء العرب الذي أرجو ألا يؤكد القاعدة، فهي ترى في كل إبداع مشروع عمل، وفي كل فكرة وضاءة مسيرة إنتاج، وفي كل وعد بالتطور صدق، وحين يركض الإبداع تركض معه ومن بين يديه ومن خلفه، وحين يومض الابتكار تكون راعيته وعنوانه، وحين يحسدها الآخرون تشعر بالفخر والخيلاء ذلك أنها لا تخشى المنافسة بقدر ما تفرح بروح التحدي الذي أثارت حفيظته وحركت مكنونه. دبي مدينة الفرص المتاحة لأصحاب الأفكار والرؤى التي تتجاوز الواقع وتحلم بالمستحيل، فالمستحيل يتحول فيها إلى مشروع تنفيذيٍ تسعى له بكل قوتها وتمنحه وقته كي ينضج ويتجلى ويتحول إلى واقع ملموس. دبي مدينة تركض إلى الغد وكأنها في سباقٍ للتحمل أو للقدرة، خيولها للجري بلا أعنة، وجمالها للصبر والقدرة بلا خطام، إنها تقول للجميع من ناطحات السحاب إلى مؤسسات المعرفة والعلم: لقد اخترت هذه الطريق، ولا أحب من الأرقام غير الأول ولا من الأسماء غير التفرد. دبي تجربة تنموية تستحق الإشادة، فهي على الدوام في منافسةٍ مع نفسها، إنّها مدينة تجري بأقصى سرعة وسكانها يسعون لمجاراتها، ومن كبا به فرسه منحته الفرصة للتجدد والعودة للمنافسة، لا مكان فيها لخامل ولا ملجأ لخامد، إن لم تركض مع الراكضين فاتك الحلم وتجاوزتك المسيرة. في منطقة تعتمد بالأساس على النفط وصادراته، لم تعبأ دبي كثيرا بنفاد نفطها، وافترعت لها طريقا خاصا للتميز والريادة، وابتعدت قدر ما تستطيع عن الاقتصاد الريعي ودخلت في مضمار السباق العالمي في استقطاب رؤوس الأموال واحتضان الاستثمارات الناجحة ورعاية المستثمرين الكبار والمبدعين الخلاقين، ونجحت رؤيتها وفاز رهانها. الوعود لا تحتمل أنصاف الحلول، وهي تعد فتفي، وعدت بأول نخلة مأهولة في البحر ووفت، وهاهي نخلة جميرا تعج بالسكان والمستثمرين وفيها أحد أفخم فنادق العالم الذي افتتحته في خضم الأزمة المالية، ووعدت بوسائل نقل عامة تلغي مشكلة الزحام من أصلها ووفت، فهاهو المترو الأحدث في العالم يمخر عباب نهضتها جئية وذهابا، مع شبكة متكاملة من حافلات النقل العام مربوطة بالمترو، وقد افتتحت المترو الذي وعدت به قبل سنوات في الوقت المحدد والزمان المعين بلا تقديم ولا تأخير، وبدون سائق! بعد إعلان «دبي العالمية» عن سعيها كأي شركة عالمية كبرى لإعادة هيكلة ديونها، كما فعلت عشرات الشركات في أمريكا والغرب، بعد هذا الإعلان أطل علينا البعض شامتا بدبي ومنجزها الاستثنائي، وهو يحسب من مكانه أن دبي قد اختفت بين عشية وضحاها وأن شوارعها فارغة وأسواقها تهش الذباب، في تعبير عن شعور معيب بالغيرة غير الصحية، وأقسى من هذا ما كتبه أحد الزملاء في صحيفة الوطن السعودية والذي يستغرب فيه سكوت من سماهم «المتأمرتين» السعوديين عن ما يحسبه خسائر للبلد الذي سكونه ونجحوا فيه وأحبوه ونالوا من خيراته الكثير، ولا أدري والله حين كتب ما كتب هل كان يدعو كل مقيم في بلد أن يتشفى منه في أوقات الأزمات! وما رأيه لو فعل المقيمون في السعودية الشيء ذاته وبمنطقه نفسه الذي يطالب به تجاه سيول جدة على سبيل المثال! أمر آخر يتداوله بعض الإعلاميين وهو استغرابهم ما يجري في الإمارات مما يعدونه تناقضا بين دبي وأبو ظبي، فيقولون لماذا يقيمون مهرجانا للسينما هنا وآخر هناك؟ ولماذا يقيمون مشاريع ترجمة هنا وهناك؟ ومدينة إعلامية هنا وأخرى هناك؟ ويسردون نماذج أخرى للتدليل على رؤيتهم لما يحسبونه تناقضا. أحسب أن الجواب سهل، فإن التنافس في التقدم والرقي والتحضر ليس تناقضا، بل هو تكامل ومحفز على الإبداع، ودافع للتميز، وهو بكل حال خير من التنافس في الفساد أو التخلف أو التطرف، هكذا بكل بساطة. إذا كان الوفاء بالوعود مقياسا تنمويا مهما في نوعيته وتوقيته فإن الأرقام لا تقل عنه مكانة واعتبارا، والأرقام كما هو معروف لا تكذب، وهاهي الأرقام تحكي عن برج الشيخ خليفة وكم هي الأرقام القياسية التي حطمها. لا تخوض دبي معركة التقدم والرقي وحيدة بل تخوضها كإمارة هي جزء من دولة «الإمارات العربية المتحدة» وحين تطمح وتجمح فلأنها تدري بأن ظهرها غير مكشوف، وطموحها له من يحميه، وجموحها له من يشارك فيه، من القريب المشارك والبعيد المساهم. علينا ألا ننسى هنا أنه حين ولولت بعض البنوك العالمية وبعض وسائل الإعلام الغربية حول إعادة هيكلة ديون «دبي العالمية» بأنها كانت تمارس هذا كنوع من الابتزاز، وهي لم تصنع شيئا شبيها مع الشركات الكبرى في الغرب والعالم، تلك الشركات التي سعت بسبب الأزمة العالمية لإعادة هيكلة ديونها، ووافقت تلك البنوك على كثير من طلبات إعادة الهيكلة للشركات التي تثق بها وبقدرتها عبر إعادة الهيكلة على تجاوز الأزمة، ولكنهم في حالة «دبي العالمية» كانوا يمارسون استغلالا مكشوفا وطمعا عاجلا. تجربة دبي هي تجربة فريدة في المنطقة رغم كل ما يقال عنها، وفي رأي كاتب هذه السطور أن أكثر ما يميز دبي هو «الفردانية» أي إحساس الفرد بكامل الحرية في كافة تصرفاته في مقابل تحمله للمسؤولية عن تلك التصرفات، ومراعاته ألا تتعدى حريته على حرية الآخرين، وأن مظلة القانون الحامي والرادع تظلل هذا كله، ولا مكان للوصاية من أحد على أحد. قيل الكثير عن «فقاعة دبي» التي ستنفجر قريبا، وهاهي تتجاوز العقد والنيف وهي لا تزداد إلا توهجا، فياليت أن لنا في كل بلد فقاعة مثلها ولو لم تستمر إلا سنة أو سنتين فقط، يذوق الناس فيها قيمة التنمية والنجاح والفردانية والإنجاز لعلهم يدمنونها جميعا ويعرفون قيمتها، وكل ما أتمناه أن تزدان منطقتنا بفقاعات مثل «فقاعة دبي». [email protected] للتواصل أرسل رسالة نصية sms إلى 88548 الاتصالات أو 636250 موبايلي أو 737701 زين تبدأ بالرمز 250 مسافة ثم الرسالة