يتدفق الحديث سخيا حول احترام الفضائل الأخلاقية والتغني بها، في المجالس وعلى صفحات الكتب وفي الصحف وفوق المنابر وعبر الأثير. يفيض الحديث حول الفضائل حتى لتكاد تظن الأرض غارقة في فيض منها، وأنك لن ترى بعد ذلك رذيلة تشوه وجه الأرض. ما أسهل الحديث عن الفضائل، وما أيسر التنطع بالقيم، وما أشهى التباهي بجمال المبادئ فالحديث سهل ميسور، طالما أنه لا يشتبك مع واقع يعوق تدفقه، ولا يمر على مختبر يتفحص صدقه وجديته. الحديث عن الفضائل سهل وميسور وممتع أيضا، لأنه يجعلنا نرى أنفسنا فاضلين ما دمنا نتغنى بالفضائل وننادي بها، ولكن. فمتى حان وقت العمل وحلت ساعة التطبيق، سرعان ما تنفض الأيدي من لذة الأحاديث وينشط التفلت من تبعاتها، فيتحول التغني بالفضائل إلى أنغام أخرى مختلفة، أنغام تعزف تبريرات لتسويق ما هو (ضد)، وتبدأ حركة البحث عن كساء قد يمت بنسب إلى قائمة الفضائل، ليكسى به ذلك الضد فلا يظهر نشازا أمام السمع والبصر. المؤمن مؤتمن، وحين يكون المرء مؤتمنا في عمل من الأعمال، يتوقع منه أن يكون أمينا وصادقا فيما يتخذه من قرارات تتعلق بما أؤتمن عليه، ومتى ظهر له الحق، لزمة أن يتشبث به وأن يسنده فلا يتخلى عنه لأي اعتبار آخر قد يطرأ، إلا أن ما يشيع ويتكرر وقوعه بين الناس، هو غير ذلك، فالغالبية منهم يتبعون أحكام الهوى في أعمالهم ويهجرون الحق. والهوى هنا ليس بالضرورة أن يكون مصلحة خاصة، وإنما هو أحيانا قد يكون مجرد رؤية عاطفية ينساق المرء وراءها فتجرفه بعيدا عن حكم العقل، كأن يتعاطف أعضاء لجنة التوظيف مع المتقدم للوظيفة، فيقررون قبول تعيينه حتى وإن كان غير كفؤ لأداء العمل لمجرد أنهم يعرفون أنه عاطل ويعول أسرة، فهو في أشد الحاجة إلى المرتب، أو أن يتعاطف أعضاء لجنة الاختبار في مؤسسة علمية مع الطالب (الخيبان) فيقررون منحه الشهادة، رغم أنهم يرونه (بعقولهم) لا يستحقها، لمجرد أنهم رحموه وأشفقوا أن يخيبوه بعد أن سار بضع سنين من عمره في طريق الحصول عليها. أو أن يقرر أعضاء لجنة التحقيق كتم نتائج تحقيقاتهم ودفن ماعرفوه من الحق، سترا على المتهم ورحمة به أن تحطم حياته عند إثبات الجرم عليه، أو غير ذلك من الصور التي يتكرر وقوعها في حياتنا، على أيدي أناس أفاضل عرفوا بالتمسك بالقيم الأخلاقية. في مثل هذه الوقائع يتصارع في نفوس الناس أمران: العقل والعاطفة، ومتى غلب الناس حكم العاطفة، عدوا متبعي الهوى، فكل ما كان بعيدا عن الحق، هو هوى، حتى وإن لم يكن من أجل مصلحة ذاتية، لكن البعض يظن أن الرحمة والتعاون والستر وأمثالها من المبررات العاطفية، تجيز لهم الخروج عن الحق الذي يأمر به العقل ويغيب عنهم أن المؤتمن من واجبه أن يغلق باب العاطفة، وأن لا ينظر سوى إلى ماكان تطبيقا للحق، فالمؤتمن حين يصدر أحكامه، هو لا يمثل ذاته وإنما يمثل من ائتمنه، وعليه مراعاة مصلحته قبل أية مصلحة أخرى. والتجاوزات التي تنتج عن تغليب العاطفة لا تخدم مصلحة لمؤتمن (بكسر الميم)، وإنما هي تراعي حماية مصلحة فرد من التعرض لضرر.. إني لست ضد الرحمة ولا ضد التعاون ولاضد الستر ولا ضد ما هو غير ذلك من صنوف عمل الخير، ولكن بشرط أن لا يحدث ذلك إلا حين يكون المرء يمثل ذاته، وليس حين يكون موكلا عن غيره. فاكس 4555382-01 للتواصل أرسل رسالة نصية sms إلى 88548 الاتصالات أو636250 موبايلي أو 737701 زين تبدأ بالرمز 160 مسافة ثم الرسالة