سبر أغوار القصيدة محاولة تتسم عادة بالمخاطر إذ من الخطأ الفادح العبث في تكوين النص دون التسلح بأدوات تمكن الناقد من الولوج إلى أعماقه وتجاوز الظاهر ومحاكاة الباطن.. وفي مفهومي الشخصي يجب أن يخلق الناقد مفاهيم إبداعية أخرى تعد نصا آخر ويبتعد كل البعد عن الانجراف التنظيري المتعلق بالشكل فقط وإذا ما أدرك المتلقي حقيقة كون الناقد مصباحا مضيئا يكشف النص وبالتالي تتضح رؤيته وتفك رموزه وتفسر معانيه ودلالاته فإنه بذلك يشكل مفهومه ورؤيته الخاصة عن النص مما يشعره بحالة الرضا وبالتالي تذوق الإبداع وتعاطيه.. وعندما كنت بصدد الكتابة عن أحد نصوص الشاعر الرائع طلال العبد الله الرشيد وجدت نفسي دونما نية مسبقة استطرد في تجربته الشعرية من خلال مجموعة من نصوصه فتجربة الرشيد (طلال) بلا شك من تجارب الشعر العامي الناضجة التي أثرت ساحة الشعر الشعبي على امتداد خارطة الإبداع أعواما كثيرة ولعلي خاطرت بذلك ولكن قربي ومعرفتي التامة بشخص المبدع طلال العبد الله الرشيد دفعني لخوض غمار هذه التجربة التي آمل أن تصل بنا إلى غايتها.. فالعلاقة بين الشاعر والقصيدة علاقة متلازمة وإذا ما أردنا أن نعطي القصيدة حقها من الدراسة فلابد من معرفة المصدر ألا وهو الشاعر معرفة تامة من حيث البيئة التي بلورت وشكلت ذائقته ومخيلته الابتكارية التي ولدت النص إضافة إلى الحالة النفسية في ذات الوقت، وطلال الرشيد لا يخفى على الجميع من أسرة عريقة لها مع التاريخ وقفة هو صاحب رؤية ثاقبة وفكر منير وثقافة واسعة النطاق مما أسهم في نضوج شاعريته التي أتحفتنا بالكثير من النصوص الشعرية التي أثرت الذائقة وأرضت الحواس وأشبعت رغباتنا. تتمتع تجربة طلال الرشيد بسلاسة الطرح ووضوح العبارة وجودة وهندسة السبك وهو بذلك يكتب السهل الممتنع ورغم سهولة تعاطي المتلقي مع نصوصه إلا أنها تحمل في باطنها الكثير من الأبعاد التي تحتاج إلى قراءة فاحصة.. لنبدأ: غلاه مدري كذا يجيك من ربه من يوم شفته وحبه ساكن فيني هذا البيت يؤكد ما ذهبت إليه.. كما أنه ينضح بفيض المشاعر (فالحب) فطري ينمو ويترعرع في قلوبنا حيث يضعنا نص الشاعر أمام مرآة كي نبحث عن ذلك الحس الخفي الذي تعزفه موسيقى النص مما يولد المشاهد الرومانسية المبحرة بنا إلى عوالم يملؤها الدفء: الشوق لا غاب كنه نار مشتبه ولا فيه شي سوى شوفته ترضيني الحب ورومانسيته يصل منتهاه المتجدد والشاعر بخماسية (الحب) يشعل الشوق ليضفي حالة من النرجسية الحالمة التي تشعرنا بالحنين ومابين هذا وذاك تبقى أسراب الحمام مهاجرة تبحث عن وطن البقاء: غصب علي أمدح فيه واكتب به إن ماخذاني لشعري من يوديني رددوا بصوت يملأ الحناجر يسافر بكم إلى منتهى الشعر (إن ما خذاني لشعري من يوديني)!؟ من ؟: هل من مجيب!! الله الله فلسفة الشاعر المبدع تتجسد بقدرته على إيجاد الدهشة، والفيلسوف في أصلها كلمة يونانية وهي بمعنى محب الحكمة وشاعرنا برغم كون تجربته عاطفية في معظمها إلا أنها مسكونة برؤية سامية وأهداف بعيدة: وبعدين أنا ل خسرته ما أخسر الجنه واحد بداله يجي عشرين ياعمي أمتعنا بلحن غاية في الروعة (وبعدين)كلمة أتت تحمل كثافة شعرية في هذا السياق الذي أوجده الشاعر بحسه المرهف.. وأود أن أشير هنا إلى أني كنت ومازال إيماني بكون (النصوص العامية سمعية) أكثر من كونها بصرية، فعندما تسمع النص العامي تشعر بقدرته على إيصالك إلى مبتغاه الشعري.. اللغة هنا انحازت إلى الإبداع حيث شكلها طلال الرشيد عقودا من الجواهر التي زين بها جيد الشعر.. دعوني أعترف لكم في هذه اللحظة بتورطي في هذه القراءة ولكن شجاعتي لمواصلة الإبحار تنبع من ثقتي في الشاعر النبيل طلال الرشيد وعشقي للإبداع: حتى ولو حاولوا لا لا يهمونك مافيه عين تعلت فوق حاجبها يكفي حبيبي إلى سلهمت بعيونك أحلى المشاعر برمش العين تكتبها مفردات زاخرة بزخم المعاني المتألقة التي تشعل فتيل الإثارة وتنم عن موهبة وقدرة الشاعر على إيجاد عالمه الخاص الذي يعكس حقيقة كونه العاشق الوحيد.. وهذا يمكن اعتباره منهجا شعريا لاسيما أن كل بيت يحمل بين طياته مفاهيم شعرية تثري الذائقة: بقول لا لو يكثر القيل والقال أنا كذا واللي يبيني يجيني نرجسية وكبرياء الشاعر تزيدنا شغفا وقربا منه فهي تعكس ما يمكن أن نشعر به في حال الشاعر ورغم كل ما يحمله البيت من التأويلات إلا أن الشعر برونقه يمزج المحتوى ويقدح زناد الأنفة في صورة شعرية لها من الجسد القلب. طلال الرشيد شاعر يمتاز طرحه الشعري بملامسته المباشرة للوجدان وبحر فتنته اللغوية في صياغة قوالب شعرية تحوي كل هذا الفيض المتدفق من المشاعر والأحاسيس. أجزم أن شاعرا بحجم طلال الرشيد لا يكتب القصيدة بعفوية وفي ذات الوقت لايتصنع الكتابة وهو بذلك يجمع مابين الفكر والعاطفة ويمزج مابين فطرة الشعر الكامنة في أعماقه ورؤيته الفلسفية المتجددة كي يستمتع. تجربة الشاعر المبدع طلال الرشيد بحاجة إلى الكثير من القراءات والدراسات لما تحمله من عمق ونضوج وتنوع فقد أمتعنا بغزله وأسرنا بعواطفه وحفزنا بوطنيته وأبكانا وأسعدنا في ذات الوقت بحزنه.. طلال الرشيد شاعر يضيء ويشتعل.. كتب ل الرياضة وناديه العالمي ( النصر ) فعشقته الملايين ورددت: الهمة الهمة الهمة يانصر والموعد القمة ذي عادتك لا تخليه يهمك الفوز وتهمه لجمهور النصر أن يتغنى بنصره ولنا أن نتغنى بطلال وشعره فقد صدح بشعره معظم فناني العالم العربي فتربع على قمة الذوق العربي: الزين خذته ولا خليت حرام لا تاخه كله لباقي الناس وش خليت ياللي لك أوصاف مكتمله مايميز طلال الرشيد هو قدرته على تجاوز اللهجة ومحدوديتها والوصول بشعره إلى قلوب عشاق الإبداع من المحيط إلى الخليج، فشعره يأتي من القلب ولا يسكن إلا القلب.. طلال الرشيد كونه شاعرا مفكرا يدرك حقيقة امتداده التاريخي ودوره في هذا المحور تجد قضايا الأمة لا تغيب عن تجربته الشعرية، فقد كتب للوطن فاعشوشب رمل الصحارى وكتب ل فلسطين فحيته غزة وناجته القدس: مهما يطول الوقت ترجع فلسطين إما ارجعت بالطيب ترجع بقوه يا أم الشهيد اللي على ابنك تصيحين حنا عيال (ن) ثارنا ثار خوه لن أستمر في الكتابة فبعد هذا النص الذي يتناول قضية فلسطين لايمكننا إلا أن نلزم الصمت فالحزن يفجر الغضب وكأني بطلال يردد في النهاية: (الجواب ما ترى لا ما تسمع).