عندما أقف أمام الصور التي يزخر بها أدبنا الشعبي في قصائد آبائنا وأجدادنا أكاد أجزم أن خلف كل صورة فنان فوتوغرافي أدار خيالهم وإحساسهم الشعري بفن واستطاع هذا الفنان أن يلتقط لنا من الطبيعة صورة لم يستطع أحد من قبلهم التقاطها وتيقنت تماما أن الإبداع الفطري الناجم من معايشة الصحراء ورمالها وجبالها وقمرها وسحبها ونباتها أقوى وأجمل وأدق من تصوير الإبداع المتصنع المزخرف بإحساس وتجارب الآخرين الذين ربما يكونون في الأصل هم من المتصنعين. فانظروا معي كيف استطاع هذا البدوي أن يلتقط لنا من الطبيعة (صوت) لم يخطر في بال أحد من قبل إن يتنبه له وهو صوت البرد عندما ينزل من السماء واستطاع أن يجد شبيها من الأصوات بمقدرته الشاعرية العالية وهو صوت الأرض عندما تدكها راحلته (الجمل) ويصدر صوتا من قوة جري الراحلة في قوله: ياركبا حرا كثير الزمر به سديس والاساع ماشق نابة يرعى ربيعا طال نبت الزهر به من الوسم لين الصيف طاحن شرابة ان مال فالحزم السوي (كن ضربه ضرب البرد من مستهل السحابة) وليس بعيد هذا الالتقاط و وهذا الصوت عن تنبه شاعر آخر بأن أصوات الأخشاب المتكون منها شداد راحلته والمعروفة (بالقد والريسان) عندما يشتد به الجري وتصادمها الرياح تعزف أصواتا مشابهة لأصوات سرب الحمام وليس أي حمام بل حدد الشاعر نوعية الحمام وهو الموجود بالقرب من العيون تحت أشجار ظليلة وعندما يشاهد قاصدين تلك العيون يتطاير ويصدر أصوات احتجاجيه وهذا ماتنبه له الشاعر في قوله: (تضارس عصي الكور بالقد والريسان تضارس حمام حده الورد عن ظلة) سأدير خيالكم إلى لوحة أخرى وصورة بعدسة نسائية كان خلفها الشاعرة بخوت المري وهي فنانة فوتوغرافية من طراز فريد ففي إحدى قصايدها الجميلة التقطت لنا صورة النار عندما تكون في أرض خالية وتحركها الهبوب وتكون أكثر اشتعالا وهذا مكمن الالتقاط الفني الذي قصدته تقول: كن في قلبي لهب نار ربعا نازلين أشعلوها بالخلا والهبوب اتلوفها ومن أجمل الصور صورة السراب عندما يتلاشى فمن منكم شاهد سراب القيظ عندما يأكله الليل غير الشاعر عمار القت في قوله عن تجاربه ومراحل عمره: راحت مسارينا وراحت غبشنا سراب قيظ جاله الليل وأخفاه أخيرا ساخذكم إلى الصورة التي التقطت بعدسة الشاعر الكبير محمد الأحمد السديري وهي صورة القمر بعد أن تتجلى عنه السحب فقد ثبت علميا أن القمر يكون أشد وضوحا وأصفى في الليلة الممطرة بعدما تكشف السحب عنه نقابها ويرجع هذا السبب إلى أن العوالق الترابية التي تتطاير في الهواء وتحجب الروية تنزل مع رشات المطر فيصبح القمر أكثر وضوحا وهذا ما تنبه له خيال السديري محمد والتقط بحرفنة في هذه الصورة الجميلة في قوله: (خده كما بدرا طهر من مزونه عقب المطر عنه السحاب يتجلا).